قال مصطفى يحياوي، أستاذ الجغرافيا السياسية والسوسيولوجيا الانتخابية، إن الداخلية ستعمل على الحد من المخاطر عبر وسائل وأدوات غير مختلفة عما كانت تلجأ إليه في سياقات متشابه هل يمكن القول إن وزارة الداخلية عادت بقوة للتدخل في الشأن الانتخابي أكثر مما كان عليه الأمر سابقا؟ لا أظن أن تدخل وزارة الداخلية في الشأن الانتخابي ظاهرة جديدة، لأن منذ بداية الاستقلال وهذه الوزارة تشرف على العملية برمتها في إطار اتفاقات معلنة وغير معلنة بين الفاعلين السياسيين الأساسيين (القصر والأحزاب). الفارق بين ما كان يجري سابقا وما وقع خلال الأسابيع الأخيرة، أن دستور 2011 والتوجيه الملكي قبيل الاستحقاقات 4 شتنبر 2015، فرضا على وزارة الداخلية التسليم بضرورة تقليص أدوارها في الإشراف. فمن جهة، أوضح منطوق النص الدستوري بشكل غير قابل للتأويل أن تمثيل الأمة شأن يهم الإرادة الشعبية المعبر عنها عبر صناديق الاقتراع، ولا يمكن ضمان احترام جدي لهذه الإرادة إلا بانتخابات نزيهة وشفافة. ومن جهة أخرى، قضى توجيه الملك لرئيس الحكومة بشكل صريح على أن الإشراف على العملية الانتخابية ينبغي أن يتم فيها التنسيق الحكومي على نحو يميز بين المستوى السياسي الموكول لرئاسة الحكومة، والمستوى التقني الموكول لوزارة الداخلية ووزارة العدل والحريات معا. يعني هذا أننا بصدد إرادة سياسية للدولة لتجاوز تضخم مسؤولية وزارة الداخلية في الإشراف الإداري والسياسي على العملية الانتخابية، وهو ما يفترض إخضاع الإجراءات التدبيرية لهذه العملية للتنسيق والاتفاق القبليين مع طرف آخر في الحكومة (وزارة العدل)، ولا يمكن أن تصبح سليمة، من الناحية النظرية، إلا إذا ما صدرت باعتبارها قرارات إدارية مشتركة. وهو، من الناحية العملية، أمر ليس سهلا؛ لأن في كثير من الأحيان الذي يحسم في قرار وزارة الداخلية ليس قابلا بالضرورة للاستواء مع قواعد الحوار المؤسساتي داخل العمل الحكومي وما تقتضيه من مناقشة وتبادل للآراء بينها وبين جهاز وزاري آخر. وما يزيد من تعقيد الموقف في التجربة الحالية، وجود وزير عدل قيادي في حزب العدالة والتنمية الذي من المفترض أنه ما يزال يطرح مشكلا للكثير من الفرقاء السياسيين يستدعي التوجس والحذر في إشراكه في القرارات العمومية التي تسمو على ما هو حزبي في سياق الاستحقاقات الانتخابية. إذن، أعتقد أن الفرق الموجود بين تدخل وزارة الداخلية سابقا، وما هو عليه الوضع حاليا، هو أن في الماضي تدخل هذا الجهاز كان متعارفا عليه باعتباره الفاعل الوحيد في الإشراف على العملية الانتخابية. أما في الوضعية الراهنة، الاختلاف والتضارب في المواقف وفي الأهداف بين الفاعلين المعنيين بالمشهد السياسي يجعل هذا الدور أكثر إثارة للاهتمام وللتشكيك في جدواه وفي استقامته وما يتطلبه سياق الانتقال الديمقراطي بالمغرب من شفافية وتكافؤ للفرص وحياد إيجابي للإدارة في تتبع ومراقبة التنافس الانتخابي بين الأحزاب. هل تطورت عقلية وزارة الداخلية مع مستجدات الحياة العامة في طرق تشذيب أو محاصرة أو نفخ الوسائل الحزبية في الانتخابات؟ في اعتقادي، وزارة الداخلية جهاز إداري يتميز بوضعه الاعتباري وتجذره التاريخي في الإدارة المخزنية وهو ما يجعلها أقرب أجهزة الدولة إلى المؤسسة الملكية. وهي تلعب أدوارا مركزية في الحفاظ على أمن واستقرار "الدولة الموحدة"، وتتشعب تدخلاتها في مناحي الحياة اليومية بشكل يؤمن سرعة الاستجابة لحاجة المساعدة الميدانية التي عادة ما تستلزمها محدودية القدرات المؤسساتية واللوجستيكية لبقية القطاعات الحكومية. ولذلك، فليس مستغربا أن يعتبر دستور 2011 الولاة والعمال المشرفين – ترابيا- على تنفيذ السياسات العمومية، وعلى التنسيق بين مختلف المصالح الخارجية والهيئات المنتخبة للجماعات الترابية. وهنا يبدو أن حتمية الاضطرار إلى تدخل وزارة الداخلية في تدبير مناحي الحياة العامة وتجسيد السلطة المركزية (المخزن) قد أدى إلى ضرورة تحيين أدوات اشتغالها وملاءمتها مع تطور الإكراهات السياسية الخارجية والداخلية، وتزايد ضغط التحولات القيمية والاجتماعية والوعي بالحقوق لدى المواطن، وتعاظم المخاطر التي تهدد استقرار وأمن المجتمع. لكن يبدو أن سرعة واستعجالية هذه التحديات قد تجاوزت القدرة المؤسساتية لهذه الوزارة، وقد زاد في صعوبة التأقلم عاملان حاسمان لم ينالا العناية الكافية من التحليل والتمحيص في الدراسات المنجزة حول تحولات النخب الإدارية بالمغرب: العامل الأول هو ما جرى مع بداية العهد الجديد، بعد إعفاء إدريس البصري، وزير الداخلية السابق، من تقوية للأدوار القيادية لفئة المهندسين الذين يختلف تكوينهم التقني والسياسي على فئة رجال السلطة والمتصرفين الإداريين خريجي معاهد تكوين أطر وزارة الداخلية. وموجزه، أن الثقافة الإدارية أصبحت أكثر عقلانية، وأكثر اهتماما بتحديث أدوات الاشتغال، وتحيين مناهج ومساطر اتخاذ القرار. مما منح الفرصة لتفكيك تدريجي للإدارة التقليدية، وتعويضها بإدارة تعتمد وسائل تدبير حديث، خاصة على مستوى معالجة المعلومات وتنظيمها بشكل عقلاني في إطار نظم معلوماتية شاملة ومعممة على مختلف أسلاك الإدارة الترابية يشرف عليها جهاز إداري مركزي يتوفر على الجاهزية والهندسة والكفاءة المعلوماتية الضرورية للتجاوب مع مختلف السياقات التي تفرضها الوظيفة المتعددة الأبعاد لوزارة الداخلية. والذي زاد من حدة هذا التحول إعلان الملك للمفهوم الجديد للسلطة، وما استتبعه في سياق تدبير توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، والتغيرات الجيلية التي وقعت في إدارة الداخلية، خاصة مع إحالة العديد من رجال السلطة على التقاعد، وتعويضهم بأطر جديدة أصبحت أكثر "حذرا" في التعامل مع التعليمات "الشفوية"، وأكثر تعاطيا مع ثقافة "المكتوب" و"القانون" في تعليل السلوكات الإدارية. العامل الثاني، هو أنه بالرغم من هذا التحديث في الوسائل التدبيرية وفي السلوكات الإدارية إلا أن تمثل وزارة الداخلية للسلطة ولشرعيات الفاعلين الأساسيين (المؤسسة الملكية والأحزاب والنقابات) وللصراع والتنافس السياسي، لم يطرأ عليه أي تغير على مستوى النواة المركزية للنظام القيمي المؤطر لعملها ولوظيفتها داخل جهاز الدولة. ولذلك، فتقديرها للمصلحة العامة، وحتى المصلحة الوطنية، بقي تقليديا غير مستوعب للتحولات المجتمعية التي وقعت أولا مع الحراك الشعبي لبداية 2011، وثانيا مع المتغيرات في وظائف الأحزاب داخل النسق السياسي للدولة المعتمد في الوثيقة الدستورية الجديدة. إذن هذا التناقض بين التقدم في تحديث الوسائل وبين التوجه التقليداني المحافظ في تمثل السلطة والصراع الانتخابي، يجعل موقف وزراة الداخلية أكثر التباسا في سياقات سياسية تنشط فيها الانتظارات، وتتقوى فيها شراسة التنافس الحزبي، ويتعاظم فيها تنافر المصالح بين الفاعلين الأساسيين. ولهذا تجد قرارات هذه الوزارة على درجة من الفجائية والوقتية ما يضعف التنبؤ بما سيكون عليها موقفها في المناسبات التالية، فيزيد بذلك منسوب الشك في حيادها، وفي ملاءمة سلوكاتها مع رهانات المجتمع واللحظة التاريخية التي يجتازها مسار الانتقال نحو الديمقراطية. هل بمقدور وزارة الداخلية الآن أي بعد الربيع الديمقراطي وتطور الوعي المجتمعي بشكل نسبي، أن تفرض تصورها في الانتخابات؟ وكيف يمكنها فعل ذلك؟ أعتقد أن المغرب يعيش مرحلة مفصلية في حياته السياسية. والانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر المقبل ذات أهمية في الحسم في هذا الشأن، لأنها قد تؤدي إلى خلخلة الأعراف المخزنية التي لم يتم "تقدير" أولويتها بشكل دقيق في دستور 2011. وإذا ما علمنا أن وزارة الداخلية تعتبر مكونا أساسيا في الإدارة المخزنية، فهذا يؤدي إلى سهولة الربط بين مواقف هذه الوزارة – راهنا- وبين الحاجة إلى التقليص من حجم مخاطر منسوب هذه الخلخلة. فوظيفيا، وباعتبار تاريخ تطور مفهوم الدولة بالمغرب، ما يحدث الآن من تحولات قيمية وسياسية لا يناسب التقدم التدريجي في ورش الديمقراطية، كما يرتئيها جزء من الفاعلين السياسيين المعنيين بالتنافس الانتخابي بين الأحزاب. ومن الوهم أن نعتبر هذا التنافس شأنا خاصا بالأحزاب، حيث من المحظور أن يتعالى حساب الزمن الانتخابي على ما يقتضيه التعايش بين مؤسسات النسق السياسي بالمغرب. أمام هذا التحدي الذي يتميز بكون جزء قليل منه معلنا، والجزء الآخر مسكوتا عنه، ويكتفى بالتلميح إليه، فلن يكون، في اعتقادي، بد من وقوع اختلاف في الرؤية وفي الأهداف بين من يرى ضرورة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإلى ما ستفرزه إرادة الناخب، وبين من يخشى من مغامرة الوقوع في تنافر مع أعراف "التعايش السياسي" بين المؤسسات بإتاحة الفرصة لتغلل حزب معين في السلطة، ومنحه الإمكانية لحيازة شرعية شعبية قد تهدد استقرار البناء المؤسساتي للدولة. ويبدو أن الوعي المجتمعي الذي أفرزته مرحلة ما بعد الحراك الديمقراطي سيزيد الأمور استعصاء على مدبري المرحلة، خاصة وزارة الداخلية التي لا تملك هامشا كبيرا لإبداع حلول ناجعة ومقبولة لاحتواء وتوجيه المرحلة. ولذلك، ستعمل على الحد من المخاطر عبر وسائل وأدوات غير مختلفة عما كانت تلجأ إليه في سياقات متشابهة؛ بالرغم من أن السياق الراهن والتحديات والعقليات لا تطاوع هذا الحرص على التقليل من المخاطر. إذ المزاج السياسي لدى الناخب تطور ولم يعد ميسرا تحريف مساره والتأثير فيه عبر وسائل استباقية تحد من حرية اختياراته.