عاد بي إعلان المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن الافتتاح الرسمي لمقبرة ضحايا أحداث 81 إلى قصتي مع هذه المقبرة. فدعوني أتذكر معكم بعضا من تفاصيلها. قبل سنوات تسللت وزميلي الصحافي يوسف بجاجا ليلا لنطل من السور على مرآب يحوي خردة للحافلات المتلاشية والمهملة، لنختبر ما سمعناه على لسان شاهد عيان فتح لنا قلبه ورمى بحمل ثقيل ظل يقض مضجعه لعقود. شعرنا بالخوف.. كان الوقت ليلا وكنا نطل على مقر الوقاية المدنية في مدينة الدارالبيضاء. لم يسعفنا يومها المصباح اليدوي، لاختبار صدقية الشهادة كما رواها لنا انطلاقا من مقر الوكالة المستقلة للنقل الحضري حينئذ. عدنا أكثر من مرة لنطل على متلاشيات الحافلات وعلى مقر الوقاية المدنية، في زمن كان فيه هامش الصحافة قد اتسع، لكن ليس لدرجة التلصص على مبنى الوقاية المدنية التابع لوزارة الداخلية، التي يحلو للعارفين بخبايا شؤون الدولة كيف ظلت تنعت بأم الوزارات. كنا قد مسحنا الأزقة الشعبية حيث ينام العديد من الأسر على ذكرى جثة! العديد منهم حكى لنا كيف سُحِلت جثة طفلته أو أخيه أو أمه أو ولده، بعد أن اخترقت أجسادهم رصاصات الجيش وفجأة اختفت الجثث، لكن إلى أين؟ هذا عنوان سؤال شغلنا ونحن نعيد القصة من البداية. كان في موضوع غلاف أسبوعية «الأيام» بعد أسابيع معدودة من ميلادها الكثير من الجرأة، ليس لأنه سلط الضوء على أحداث 81 التي يتذكر الجميع أن رجل الشاوية القوي على عهد الملك الراحل الحسن الثاني وصفهم ب «شهداء الكوميرة»، ولكن لأن النبش يقود إلى مقبرة جماعية مسكوت عنها. ما أربكنا في لحظة من لحظات التحقيق أن الشاهد اختفى عن الأنظار، بات يتهرب من مواعيدنا المتكررة وحينما طرقنا باب بيته ذات مرة صفق الباب في وجهنا بعد أن قال لنا جملته التي لازال صداها يرن في أذني: «لماذا لا تصدقونني لقد رأيتهم بأم عيني.. جاؤوا ليلا ورموا بالجثث.. أنا أشتغل هناك.. وقد شاهدت من الثقب كيف دفنوهم في حفرة كبيرة». نقلنا يومها شهادات أسر الضحايا وقربنا القارئ من المكان المفترض أنه استُخدِم لإخفاء معالم جريمة الدولة للضحايا. بعدها بسنوات تشكلت هيئة الإنصاف والمصالحة وتبين أن ما نشرناه هو ما تأكد في ليلة سوداء أشعلت فيها مصابيح الدولة قبل بزوغ الفجر، ليس في حجم المصباح الخجول الذي اعتمدت عليه وزميلي يوسف، وإنما مصابيح ضخمة، تحت أضوائها تمت عملية الحفر وانتشلت جثث، اعترفت معها الدولة بوجود مقبرة ضحايا أحداث 81، وانتقل يومها من الفم إلى الأذن الخبر اليقين.. هنا أسفل ملعب كرة القدم التابع للوقاية المدنية، كان يرقد الضحايا. لا أحتاج لتذكيركم بدلالات علقت في ذهني، فأمام مقر الوقاية المدنية تقع مقبرة الشهداء، حيث يرقد وطنيون كبار على رأسهم الشهيد محمد الزرقطوني.. أسرد هذه الحكاية اليوم لأعيد وإياكم جوهر مشكلتنا الذي يكمن بالضبط في تلك المنطقة الرمادية. صحيح أننا انتقلنا من عالم كانت فيه حقوق الإنسان تنتهك، وكانت فيه حقوق النساء تُداس تحت ذلك الحذاء، وظلت باقي الحقوق الأخرى والحريات على آخر الهامش. صحيح، أيضا، أننا سافرنا من عالم أسود راح ضحيته مئات النساء والرجال والأطفال، لكن هل تجاوزنا تلك المنطقة الرمادية؟ جاحد من ينكر شجاعة الاعتراف بمقبرة جماعية في ثكنة، إنها صورة من صور الانتقال. وجاحد، أيضا، من يدّعي ترجمة أحلام مغاربة دبجها الراحل بنزكري وفي نفسها أشياء من حتى، فالمغرب الذي توافقت قواه في هيئة الإنصاف والمصالحة، التجربة الفريدة في العالم العربي وشمال إفريقيا، على كل تلك التوصيات الدستورية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، هو نفسه الذي ما يزال يطمح إلى ترجمتها.. ليس مهما تقارير «الخارج».. مهم جدا ترجمة أحلامنا المعلقة.