يُنسب إلى رئيس وزراء لبنان السابق «سليم الحص» وصفَ بلده بالقول «في لبنان كثير من الحريات وقليل من الديمقراطية».. والحال أن الحرية إذا كانت شرطاً للديمقراطية، فإنها لا تُفضي إليها بالضرورة، ما لم تتعزز بمتغيرات أخرى لازِمة للديمقراطية. ليس قصدي التوقف عند دلالات هذا الوصف الدقيق لرجل حكيم خبِرَ سياسة َبلاده، بل مقصدي استعارة قوله للحديث عن الجامعة المغربية مرة أخرى. ففي الجامعة المغربية فعلاً، كثيرٌ من الحريات..لكن، قليلٌ من الديمقراطية. لم تنص دساتير المغرب منذ الدستور التأسيسي لعام 1962 وحتى إقرار الوثيقة الأخيرة سنة 2011 على «الحريات الأكاديمية»، لكن أقرت ما ينضوي تحتها ويُعزِّزها، أي «حرية الفكر والتعبير، والإبداع والنشر، في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني..»، كما كرّست القوانين ذات الصلة مجمل هذه الحقوق، وفي مقدمتها القانون 01.00 الخاص بتنظيم التعليم العالي والبحث العلمي. من تجليات هذه الحريات المكفولة بالقانون الحيّز الواسع المتاح لهيئات التدريس في الاجتهاد في تدقيق مضامين تكويناتهم وتأصيلها، فالمشرّع لم يضع كتاباً جامعياً نمطيا ملزماً للجميع، بل ترك للجميع حرية الاجتهاد في ضوء ما تقضي به دفاتر الاعتماد، وهي في كل الأحوال عناوين كبرى ليس إلا..غير أن ما هو حاصلٌ في واقع الممارسة، وإن بدرجات مختلفة من حقل معرفي إلى آخر، ومن جامعة إلى أخرى، مقاومة هيئات التدريس لأي خطوة بيداغوجية تروم ربط الاجتهاد في تدقيق وإثراء مضامين التكوينات بروح العمل الجماعي، والمؤسسية والمهنية، والتقييم وإعادة التقييم، بل إن التصور السائد لدى فئات واسعة من الأساتذة أنهم «أسياد» في مجالاتهم، وأن التنسيق والتعاون من أجل تأسيس ممارسات فُضلى في حقل التدريس، تنتقص من «سيادتهم». لذلك، يحدث أن نجد في تدريس المادة الواحدة لأفواج متعددة بين من يذهب شرقا، ومن يُغرّد غرباً، والخاسر الأكبر في العملية التعليمية هو الطالب، أي جودة التعليم وانسجامه وتماسكه. يترتب عن الفهم غير السليم للحرية المبين أعلاه، إضعاف لدور المؤسسات التمثيلية المنوط بها وظيفة تنسيق الجهود الجماعية للأساتذة، وتوجيهها نحو المؤسسية والمهنية، كما هو حال الشُّعب والأقسام، ومجالس الكليات، واللجان البيداغوجية والعلمية. ودون أن أقصد التعميم، يبدو لي مما ألمسهُ وأتابعهُ عن العديد من المؤسسات المنتسبة تحديداً إلى الاجتماعيات والإنسانيات أن ممارسات مشينة تسرّبت إليها، من قبيل المحاباة، والزبونية، وتصفية الحسابات، ففقدتها القدرة على أن تكون فعلاً إطارات للاجتهاد الخلاّق والجماعي، وحرمتها من ممارسة الحريات الأكاديمية بمسؤولية، وبقدر عالٍ من روح الديمقراطية. والحقيقة أن الأمر لا ينحصر في جانب الأساتذة، بل يطال أيضا القيادات الجامعية، أي المسؤولين عن المؤسسات، الذين تتكامل أدوارهم مع أدوار الأساتذة في جعل الجامعة إطاراً مميّزا للتحصيل والبحث وبناء الشخصية، وإعداد الكفاءات. لم يعد خافياً أن الجامعة المغربية شهدت خلال العقدين الأخيرين، تغيّرات نوعية في طبيعة القيادات التي تولّت إدارة شؤونها علمياً وإداريا. وإذا كان منتظراً من انتقال المغرب من التعيين المباشر لرؤساء الجامعات والعمداء، إلى الانتقاء بواسطة لجان وملفات علمية للترشح، أن يُفضي إلى اختيار كفاءات أكثر جودة وقدرة على التسيير والتدبير، فإن ما حصل جاء مغايراً في عمومه، حيث ساهمت بعض القيادات الجامعية، من حيث تدري أو لا تدري، في تكريس الممارسات المشينة المومإ إليها أعلاه، وعملت على تحويلها إلى ما يُشبه القيم الجامعية المضرة بأخلاقيات المهنة، وقد عجزت بذلك أن تكون قدوة لقيادة قاطرة التعليم الجامعي. علما أنها دعّمت ترشيحها بمشروع تطوير المؤسسة، أكانت جامعة أم كلية، وتنمية ديناميكيات التكوين والبحث فيها، وحماية وصون أخلاقيات المهنة. نعم، للحريات الكثيرة التي تتمتع بها الجامعة المغربية، لكن الحريات وحدها غير مجدية، إذا لم تقترن بالمسؤولية، التي هي أولا وأخيرا، وعيُ الحقوق وحدودها، والواجبات ولوازمها. إن الجامعة المغربية في حاجة إلى كثير من الديمقراطية، أي المناخ الثقافي والنفسي والعلمي الذي يحول الحريات المسؤولة إلى روح متجدّدة من الشعور بالواجب، والمشاركة الجماعية، والتقييم والمساءلة عن الإنجازات والمحاسبة عن الأفعال.