كم يخيفني هذا الإحساس الذي يُداهمني منذ الأسابيع الأخيرة.. لقد أخذت أتعود على التعاطف الفاتر مع أولئك الضحايا الذين لا أعرف، والذين يتوالى هرق دمائهم.. في سوريا وفلسطين، ثم في لبنان وفرنسا، فمالي، وها قد جاء هذا الأسبوع الدور على تونس..عشرات الحيوات والأحلام البسيطة والأوهام الجميلة أيضا، تتلاشى إلى الأبد، فقط لأن يدا عمياء لا تحب الحياة قررت ذلك.. ولا أحد يدري أين ستضرب في المرة المقبلة. فأنا أخشى، فعلا، أن أتآلف مع الدمار، الذي تخلفه هذه اليد الإرهابية العمياء المدججة بقنابلها ورشاشاتها والمصفحة بإيديولوجيا الموت، فينتابني ذلك التعاطف الأوتوماتيكي البارد مع الضحايا وأتأسف أو حتى ألعن الظروف التي أفضت إلى المأساة، وأتحدث في المقهى أو البار، وأنا أتابع آخر الأخبار على التلفاز، عن الأسباب والمسببات، ثم أهرب من الوخزات المؤلمة للإحساس بالعجز، وألوذ بهمومي الصغيرة والكبيرة الأخرى، في انتظار الضربة المقبلة التي أحس أن تلك اليد تُلوِّح بها هناك عند منعطف الأيام. أخشى أن أتعود على العيش مع شبح تلك اليد العمياء، كما يتعود غيري على الرائحة الكريهة للواد الحار من فرط ما يعيش في كنفها. فتصير كائنا غير مرئي لا تلتقطه العين، ولكن تراه الروح، وتحس بوجوده على التلفاز وعند ناصية الشارع، وفي «طيراس» المقهى. وتصبح، مثل سيف داموقليس المعلق بخيط رهيف في الهواء، ولا يعرف أحد متى تهوي على الأعناق ولا أين. أخشى أن يصبح نشاط هذه اليد الإرهابية العمياء واحدة من تلك الأشياء التي تؤثث مشهدنا من فرط ما صرنا نتابع أخبار «إنجازاتها الدموية»، فنسرع عند كل كارثة إرهابية إلى التعبير عن التضامن مع الضحايا وشجب المعتدين، ومن يحركهم، والأخطر في تقديري هو أننا نقوم بهذا بنية صافية. ثم بعد ذلك نفرغ من الأمر بإحساس من أدى واجبه ونمضي إلى الانغماس في المسلسل اللانهائي لليومي. أجل، أخشى أن يصبح الإرهاب شبحا/نجما.. لا نرى منه سوى أثره المدمر، ولا نكف عن تناول أخباره وحتى صوره وصور كوارثه، ولا نتوقف عن التداول في أموره تنديدا وتحليلا وتعاطفا مع الضحايا، ودعاء بأن تخطئنا، نحن وذوينا، يده العمياء. أخشى حقيقة أن يتحول هذا التعود على مآسي الإرهاب، وعلى استنكارها، وعلى التضامن مع ضحاياه إلى ما يشبه الصمت الذي يأكل من لساني «ويترك البقايا على جمرة في باطن الكف»، على حد تعبير الشاعر المغربي عبد العالي دمياني، تلك الجمرة التي أخشى، أيضا، أن تتعود تلك الكف على ألمها.