[email protected] الجوع آفة خطيرة ... الجوع طامة كبرى ... الجوع مصيبة قاتلة... الجوع يفضح البشرية ويختبرها في قيمها وأخلاقها وقوانينها ... ومعنى وجودها فوق هذه الأرض. الجوع علة وأية علة ... ولك أن تضيف كل الأوصاف والنعوت القدحية لتصف الجوع،ذلك العدو الذي كلما برئت الإنسانية من دائه،فاجأها من جديد،وفتك بقطاع عريض من أبنائها.. على مرأى وشهادة الآخرين. أكيد أن كل واحد منا مر بتجربة الجوع لمدة محددة،وعانى تلك الآلام الغريبة .إن تقلصات بطنه وتمدداتها ،دون أن تجد معدته شيئا تهضمه،هي تجربة على قصرها، رهيبة جدا.يحس الجائع معها أن الوقت شبه متوقف،وحواسه تتوقف عن القيام بوظيفتها كما هي.والمغاربة ،وربما شعوب أخرى أيضا ،لكي يصفوا قسوة الجوع وشدته،يقولون : (من شدة الجوع لم أعد أرى ما حولي ). وهذا صحيح إلى حد بعيد،ليست الرؤية وحدها هي التي تتأثر بل كل الحواس وكل الأعضاء ... الجسمُ كله يكون مُقبلا على الانهيار التام ،ولا يتماسك أمام ضربات الجوع القاضية.فإن كانت بقية أصوات تصل إلى مسمعه فهي أصوات مشوبة بنداء الخبز.وإن أبصر شيئا ،خاله مزيجا من الأطعمة الشهية،وإن شم روائح اختلطت عليه بروائح الخبز الناضج واللحم المشوي وروائح أخرى بكل النكهات.يسيل لها لعابه ويطرب لها سمعه. وهي تلك الحال التي حكى عنها شاعر عربي ،يصف حال جائع بئيس : وغدا القوتُ في يد الناسِ كالياقوتِ، حتى نوى الفقيرُ الصياما يقطعُ اليومَ طاويًا ولديه دون ***** ريحِ القُتارِ ريحُ الخُزامى ويَخالُ الرغيفَ في البُعدِ بدرًا **** ويظنُّ اللحومَ صيدًا حراما إنْ أصابَ الرغيفَ من بعدِ كَدٍّ ***صاحَ: مَنْ لي بأنْ أُصيبَ الإداما والجائعُ لا يجد طعما للنوم هذا إذا راود النوم أجفانه أصلا ،فهو يمضي وقتا طويلا يتقلب فوق فراشه،يمينا وشمالا،نزولا وصعودا،على أحر من الجمر،والمساميرُ الحادة والساخنة تخز أمعاءه الفارغة.ويحفظ لنا التاريخ قصصا كثيرة،لعل أشهرها قصة أم الأيتام مع عمر بن الخطاب "ض" .تلك المرأة الفقيرة التي لم تكن تجد ما تطعمه صغارها،فتعمد إلى حيلة العاجز، حيث تجعل الحصى في آنية مملوءة ماء تضعها فوق النار، ثم تتركها تغلي والأطفال حولها يترقبون طعام العشاء،فلا الحصى ينضج ولا الأطفال يأكلون،وإنما هي "حيلة" أم لا تجد ما تطعم صغارها... لكن الجوع قلما يترك لصاحبه حيلة للنجاة.وبقية القصة تعرفونها. أين عمرُ الذي يخرج أهل الصومال وشعوب القرن الإفريقي من طول انتظارهم ؟ أم أن هذه شعوب لا عمر لها ... ولا بواكي لها ... ولا قلوب تتعاطف معها فتسعى كي تخفف عنها حدة المأساة. إن عمر ، يومها ،لم تكن له الجرأة فقط كي ينقذ ،امرأة أرملة وصغارها الذين فقدوا عائلهم ،من غائلة الجوع.إن ذلك عمل إحساني وسلوك إنساني إذا لم يقم به عمر أمير المؤمنين فمن سواه يقوم به أحسن قيام ؟ إن عمر ذهب بعيدا في محاربة هذه الآفة...وأبان عن معدن الحاكم المثالي الذي لن يجود التاريخ بمثله.وذلك عام الرمادة.وما أدراك ما عام الرمادة في بيئة قاحلة و فقر مدقع ،السماء أمسكت قطرها والأرض واصلت جذبها وقفرها ؟ ( أخرج الطبري من خبر عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كانت الرمادة جوعاً شديداً أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر" وقال الحافظ ابن كثير: "وقد روينا أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السُؤَّال سألوا فلم يُعطوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون". أيضاً احتشد الناس من خارج المدينة وقدموا إليها يطلبون العون حتى قيل أنه خيم في أطراف المدينة حوالي ستون ألفاً من العرب لا يجدون إلا ما يقدم لهم من بيت المال أو من أهل المدينةالمنورة. وذكر أن عمراً كان يولم لهم كل ليلة حتى حضر في وليمة واحدة أكثر من عشرة آلاف.) أنظر : ويكبيديا – عام الرمادة. إن وصف الطبري ووصف الحافظ بن كثير للوضع الخطير الذي آل إليه حال المسلمين عام الرمادة،يحاكي إن لم أقل يفوق،كثيرا من الأوصاف التي تنقلها الفضائيات بواسطة تقارير وربورتاجات معززة بالصوت والصورة.فأن يذبح المرء شاته ثم يعافها لهزالها وشدة ضعفها،صورة تختزل المشهد المأساوي برمته. في وضع كهذا يصبح البؤس موزعا بالتساوي على كل القلوب،ويصبح الكدر مخيما على كل العيون،ويصبح الضحك ترفا لا يقوى عليه إلا السفهاء أو من كانوا عديمي الإحساس.فإن ضحكوا مرغمين فهو ضحك أقرب للبكاء،ربما أرادوا به التخفيف من حدة المأساة،ولو بتحريك الشفاه على شكل ابتسامة فاترة. في مثل هذه الأحوال تصبح الإنسانية بما تعني من مشاعر الحب والرحمة والرأفة والعتق والتعاون والتآزر ...تصبح الإنسانية قانونا فوق كل قانون آخر.ويصبح إحساس الإنسان بمأساة أخيه الإنسان لطيفا جدا وشفافا إلى حد كبير.فلا مجال إذاً إلى البحث عن قوانينَ لمحاسبة الناس الجائعين وهم ،من جوعهم ومأساتهم،يحاولون البحث عن جميع السبل وعن كل الوسائل التي يتدبرون بها قطعة الخبز التي تقيم صلبهم وتؤجل مصيرهم المحتوم. هنا اكتسب الفاروق عمر الجرأة،كحاكم له رؤية وإلمام بدور القانون وصبغته الإنسانية،فأوقف العمل بحد السرقة.لأن قطع يد من يبحث عن لقمة يسد بها جوعته،يعني مضاعفة مأساته،وزيادة منسوب بؤسه.والقانون في جوهره وفي أهدافه بحث عن العدل والإنصاف،ومزيد من إنسانية الإنسان. لكن يبدو أن مأساة شعوب القرن الإفريقي،وخاصة الشعب الصومالي الذي يمر بظروف قاسية جدا،تطرح تحديا كبيرا على الضمير الإنساني في العالم كله. إننا مطالبون بفعل شيء ما لمساعدة هؤلاء البؤساء،ضحايا الحروب والمجاعة وغياب أبسط وسائل العيش الكريم.أناس يفترشون الأرض ويلتحفون السماء مهددين بالعصابات المسلحة التي تسطو على كل كسرة خبز قد تعرف طريقها إلى أيديهم في غفلة من القتلة ... لا بد من فعل شيء ملموس. لا يُعقل أن يقف العالم متفرجا على مأساة كبيرة تجتاح أمة تهددها بالزوال... لا يُعقل أن يكون مسلمون على ضفة البحر الأحمر يكابدون الجوع والجفاف وقلة الأمن،يموتون واحدا واحدا ... يموت الصغير بين يدي أمه، ولا تجد غير دموعها تسكبها حزنا وألما على فراق فلذة كبدها.ويموت الشيخ الكبير ،ولا يجد إبنه الشاب عزاء، إلا آهة يخفف بها بعض حزنه ... وعلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر نفسه ،مئات الآلاف من المسلمين يعتمرون ...يبحثون عن الخشوع في بيت الله الحرام ... يعبدون الله ويرفعون أكفهم للسماء طلبا للرحمة والعتق من النار... وربما طلبا لمزيد من الأرزاق والخيرات... وهم في تعبدهم يأكلون ويشربون وينامون ببال مرتاح وعين قريرة.وبعدها نرفع ذلك الشعار : المسلم أخو المسلم إن كان حقا أخاه ،فكيف يموت الفقير بجوعه ويكاد الغني " ينفجر " ببطنته ؟ إن كانا أخوين ،هل يستقيم الغنى الفاحش على مقربة من الحاجة المذلة والعوز إلى حد الموت جوعا ؟ هل يجوز أن يكون لكلمة أخوة معنى في حس من يموت أبناؤه من الجوع بين يديه،تحت تهديد عصابات السلاح وتجار البارود،وكل ما يفعله الأخ الآمن في سربه ،قوته بالملايين ،أن يردد بشكل آلي : لا حول ولا قوة إلا بالله.إنا لله وإنا إليه راجعون. حقا إن هذه المجاعة تفضح البشرية كلها ،وتكشف أن إحساس الأغلبية مات،وأن الإنسانية التي يتغنى بها المغنون ويمجدها الممجدون والمداحون والكذابون،لا معنى لها.هي كلمات جوفاء منخورة.أفرغت من دلالاتها لكثرة ما لاكتها تلك الألسن التي تخفي قسوة قلوب قدت من حجر. إن المنادين بنصرة هؤلاء الجوعى هم الأقلية،فإن لم تكن قلتهم بالعدد،فهي قلة بالتأثير والقدرة على تأليب الرأي العام،والسعي فورا لإنقاذ الملايين... فليس الجوع ناتجا عن نقص في المواد الغذائية والخيرات والثروات ... بل إن الجوع هو بالدرجة الأولى نقصٌ في الإحساس ونقصٌ في الإنسانية.نقص فظيع حقا لا يمكن وصفه.وكلما طالت مأساة إخواننا في القرن الإفريقي، كلما تعرينا من أوراق التوت الصفراء الباهتة جدا والشفافة جدا ، تلك التي تغطي عوراتنا وجشعنا وقسوة قلوبنا. فهل يصحو ضمير الأمة الإسلامية في شهر رمضان،شهر العبادة والطاعات ؟ وهل يصحو ضمير العالم كله أمام هول الفاجعة،وحجم هذه المأساة ؟