الذين استكثروا على العالم العربي ربيعا سلميا يغير قواعد إدارة السلطة والثروة بالتي هي أحسن، ويضمن انتقالا سلسا إلى نادي الديمقراطيات الحديثة دون دم ولا أعواد مشانق.. الذين رأوا في الربيع العربي فاتورة كبيرة لا تحتملها مواقعهم ومصالحهم، عليهم الآن أن يتطلعوا إلى الخراب المنتشر من الماء إلى الماء.. عليهم الآن أن يعدوا خسائر الخريف العربي الذي أكل ثورة مصر السلمية، ووضع مكانها نظاما عسكريا أعمى يقود البلاد نحو كارثة كبيرة ستزلزل البلاد ومحيطها، هو نفسه الخريف الذي قوض أسس الدولة في اليمن، ودفع بها إلى حرب أهلية وأخرى إقليمية سترجع بالبلاد عقودا إلى الوراء، هو ذاته الخريف الذي أبقى على نظام بشار في سوريا لكن الدولة انهارت، واستقلالها تبخر، وقرارها انتقل إلى طهران وموسكو، وفوق هذا سقط أكثر من 300 ألف قتيل ومثلهم من الجرحى، بالإضافة إلى ملايين السوريين الذين تحولوا إلى أرقام لاجئين، وإلى صور درامية في نشرات الأخبار… الثورة المضادة في مصر واليمن وليبيا وسوريا لم تفلح في الحفاظ على النظام القديم، ولا في بناء نظام جديد، ولا حتى في الإبقاء على سلطة الدولة التي تفككت وأطلقت العنان للحروب الأهلية والانقسامات الطائفية والمشاريع الإرهابية التي وجدت الأرض الخصبة للنمو والتمدد. حتى تونس، التي كانت تبدو من بعيد أملا واعدا بنجاح وصفة الربيع في تأمين انتقال ديمقراطي سلس، ها هي تشهد تشققا كبيرا لحزب «نداء تونس»، الذي تشكل ما بعد الثورة كتعبير عن تحالف غير متجانس وسط معسكر الخائفين من التغيير. انشقاق حزب القايد السبسي يفتح الباب واسعا لإعادة رسم تحالفات جديدة في مناخ اقتصادي واجتماعي لا يبعث على الاطمئنان، فالخوف من الإسلاميين لا يصنع بديلا، والخوف من التغيير ليس إيديولوجيا ولا مشروعا تلتف حوله النخب، قديمها وجديدها… أما المغرب فلا يبدو أن «استثناءه» سيصمد طويلا أمام مخططات «الدولة العميقة» للرجوع بالبلاد إلى الوراء، واستعمال ورقة إشراك الإسلاميين في جزء من السلطة غطاء للعودة إلى الممارسات القديمة نفسها، حيث يجري تدبير الحكم خارج قواعد الدستور وأصول اللعبة الديمقراطية. كلما اتجهت الطبقات المتوسطة إلى استعمال صوتها الانتخابي طلبا للتغيير والإصلاح ومعاقبة الأحزاب الفاسدة، زاد رهان «الدولة العميقة» على الالتفاف على صناديق الاقتراع، وتسمين حزب السلطة الذي أعطي أصوات القرى الانتخابية ليشكل سلطة مضادة لسلطة العدالة والتنمية في المدن، وكل هذا من أجل امتصاص آثار الربيع المغربي من الحياة السياسية والحزبية، وإعادة إقفال القوس الذي فتح قبل أربع سنوات مع انطلاق حركة 20 فبراير، التي هزت شجرة السلطة بقوة، وفرضت على الدولة تعديل الدستور، وحل البرلمان والحكومة السابقين، وإعادة النظر في هندسة السلطة وفق معادلة جديدة تأخذ بعين الاعتبار مطالب الشارع وآمال الناس في رؤية حكومة تشبههم، وبرلمان يمثلهم، ونخب سياسية تستمع إليهم… الحكومة تلعب دور المعارضة، والمعارضة تصطف في جبهة الحكم، ولعبة خلط الأوراق مستمرة. ليس الربيع العربي قوسا فتح وسيغلق، وليس الحراك الذي انطلق قبل أربع سنوات مجرد فلتة سياسية لن تتكرر، وليس خطأ في الحساب سيتم تداركه. ما جرى من بركان سياسي تعبير عن تحول تاريخي في مسار الدول العربية لا رجعة فيه، قد يتوقف هذا المسار، وقد يتعثر، وقد لا يزهر ربيعه الآن، وقد يخرج أسوأ ما في مجتمعاتنا المريضة من عنف وانقسام وكراهية وسلطوية وتطرف وإرهاب… لكن مسار التغيير سيمضي في طريقه لإزالة القديم وإحلال الجديد. السؤال هو: ما هو حجم الكلفة التي سيدفعها كل نظام مقابل التغيير المقبل؟ الذي يرفض الآن الطابع السلمي للربيع قد يجد نفسه غدا أمام عاصفة عنيفة لشتاء طويل. هذه ليست نبوءة ولا رومانسية ولا نزعة إرادوية.. هذا تحصيل حاصل لوضع عربي شحن بكل أنواع المتفجرات (الفقر يزداد، الفساد يتقوى، الظلم يتمدد، الإحساس بالمهانة يتوسع، ومعه جدار الخوف يسقط، وشباب يستوطن القاعدة العريضة للهرم السكاني يطمح إلى العيش في عصره وقيم الوقت الذي ينتمي إليه…). هل توجد خلطة أفضل من هذه لتفجير أقوى البنى الاجتماعية والسياسية، ولو كانت محروسة بأختام السلطوية؟