لا شك أن العلمانية أحد أركان الدولة المدنية العلمانية. ومن سوء حظنا في هذه المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج أن هذا المفهوم مازال ملتبسا وغامضا ومنفلتا، رغم أن عددا من المفكرين العرب، حاولوا تبديد هذا اللبس والغموض من خلال الحفر في أصول المصطلحات الغربية مثل laicité وsecularism وظروف وملابسات وضع كلمة «علمانية» مقابلا لها في العربية. ولعل هذا الغموض من بين الأسباب التي تحول دون أن يفلح المدافعين عنها في الإقناع بجدواها وأهميتها، بل حيويتها، للعيش المشترك في مجتمع يؤمن حقا بالمساواة والحرية من جهة، وتجعل كل الذين لا يستسيغونه - سواء لأنهم واعون بأنه يهدد مصالحهم أو لأنهم فقط، لا يريدون بذل المجهود لاستيعابه - يعتبرونه مصدر كل الشرور التي تهدد هويتهم الدينية أو انتماءهم الثقافي، من جهة ثانية. وإذا ما عدنا إلى أصل المفهوم الفرنسي laicité، الذي يثير مخاوف جمة عند الكثير في العالمين العربي والإسلامي، فسنجدها مشتقة من الكلمة اللاتينية laicus، التي تعني بكل بساطة «عامة الناس» الذين ليست لهم علاقة مباشرة بالمؤسسة الدينية، في مقابل كلمة klericos التي تشير، كما توحي رنتها بذلك، إلى رجال الدين. أما الكلمة الإنجليزية secular، فهي حسب المتخصصين مشتقة من اللفظة اللاتينية saeculum وتعني «القرن». إذن في كِلتَي الحالتين، ودون الدخول في تفاصيل تطور المفهومين وكيفية وصولها إلى العرب والعربية لأن الحيز لا يسمح، هناك ميل إلى إبعاد الفرد والمجتمع وتحريرهما من احتمال استعمال الدين كسلطة سياسية قهرية للتحكم فيهما، وهو ما حدث في أوروبا لقرون عديدة. إذ تحكمت الكنيسة في رقاب الناس وأرواحهم ولم يشرعوا في التحرر منها فعليا سوى في «عصر الأنوار». ولعل إطلاق هذا الوصف على تلك الفترة (بالخصوص القرنين 17 و18) لم يكن من باب الصدفة. فقد أخذت الشعوب الأوروبية، بفضل مجموعة من المفكرين الذين مازال تأثيرهم على الفكر الإنساني بارزا إلى اليوم، تخرج من الشرنقة المظلمة للكنيسة إلى رحاب أنوار الحياة المدنية. وانحسرت سلطة الدين عن الفضاء العمومي شيئا فشيئا ليعود إلى الفضاء الخاصّ- وهذا هو مكانه الحقيقي في تقديري- كممارسة روحية شخصية خالصة. وبما أن «العلمانية» أو «اللائكية» كما يفضل البعض جاءت من عند الآخر، فقد كانت مصدر توجس كبير وعميق في منطقتنا التي مازال للدين فيها سطوة كبيرة على الحياة السياسية والمدنية للناس. وقد حاول عدد من مفكرينا المعاصرين تبديد هذا الخوف وحفر مسلك لها في مجتمعاتنا بشكل غير مباشر مثل المفكر محمد عابد الجابري، الذي يرى أن العلمانية، باعتبارها فصلا للكنيسة عن الدولة، لا تتلاءم مع الواقع العربي الإسلامي، ويقترح بدلا عنها اعتماد «الديمقراطية» التي تروم «حفظ حقوق الأفراد والجماعات»، و»العقلانية» التي تهدف إلى «الممارسة السياسية الرشيدة». والواقع أنه لا يمكن ضمان حقوق الأفراد والجماعات، عامة الناس في آخر المطاف، من طرف سلطة تفرط في الاعتماد على الدين لبسط هيمنتها، ولا يمكن أن للممارسة السياسة، وهي نشاط إنساني صرف، أن تكون رشيدة في ظل تأويلات معينة للدين، هي السائدة في مجتمعاتنا.