شاع بين مُستعملي "العربيّة" مُصطلَحُ "العَلْمانيّة" في الدّلالة، عموما، على معنى «فصل الدِّين عن مجال السياسة و، بالخصوص، عن الدّولة». وبما أنّ لفظ "العَلْمانيّة" وُلِّد في مُقابل اللّفظ الفرنسيّ "لَيْسيتِّي" (laïcité) أو الإنجليزيّ "سِكْيُولارزم" (secularism)، فإنّ ما لا يكاد يَطرحه كثيرون إنما هو مدى صحّة هذا التّوليد ودقّة أدائه للمعنى المقصود. من المُسلّم، بالتأكيد، أنّ أيّ لسان بشريّ لا يقوم إلّا بما هو نسقٌ رمزيّ وتواصُليّ خاضع لمجموعة من "القواعد" المُحدِّدة لتأليف الأصوات/الحروف فيه لتكوين الكلمات كوحدات دالّة ولتركيبها في جُمل تُستعمَل لأداء مَقاصد المُتكلِّمين/المُتخاطبين في المجال الخاص بتداوُله. وهذا معناه أنّ وظائف التّواصُل/التّخاطُب – من تبليغ وتدليل وتوجيه- لا يُمكن تحقُّقها إلّا بقدر ما تُراعَى القواعد الصرفيّة والتّركيبيّة والمُعجميّة والتّداوُليّة المُتعلِّقة بكل لسان على حدَةٍ. ونجد أنّ مُستعملِي اللِّسان العربيّ، خصوصا بين الكُتّاب والمثقفين، لا يحترمون في الغالب القواعد الضابطة لاستعماله بما هو لسانٌ كغيره من الألسن، بل إنّ منهم من يَتصرّف كما لو كانت "اللُّغة" أصلا لا تُوضع ولا تُستعمل إلّا بالتّشهِّي والتّحكُّم. والحال أنّ أيّ استعمال لُغويّ لا يكون مقبولا إلّا بقدر ما يَستند إلى تعليل وجيه من داخل النّسق نفسه. ولذا، فلا يُوصَّفُ "اللِّسان" إلّا بحثا عن معرفة "الكيفيّة" التي يَشتغل بها والتي تُحدَّد، عادةً، في مجموع «القواعد النّحويّة» المُستنبَطة من المَتْن الذي خضع للدراسة المنهجيّة ؛ وهو ما يُؤكِّد أنّ "المقبوليّة" اللُّغويّة لا تنفك عن التّمييز بين ما يَخضع للاتِّساق النَّحويّ (كاستعمال مُطّرِد وصحيح) وما يَشُذّ عنه (كاستعمال غير مُنتظم وغير مُعلَّل و، في بعض الحالات، مغلوط). ولعلّ لفظ "عَلْمانيّة"، وما يرتبط به من مُشتقّات ("عَلْمَنهُ"، "عَلْمنةٌ"، "عَلْمانويّة")، يُعدّ أحد الأمثلة الدّالّة على كيفيّة تعامُل المُثقّفين مع اللِّسان العربيّ. وكما ورد في عنوان المقال، فإنّ الأمر في لفظ "عَلْمانيّة" يَتعلّق بتَرْجمة فاسدة بُني عليها ب"التّرْجيم" – أيْ عن طريق «التّكلُّم بالظنّ»- أكثر من لفظ توهُّما وتحكُّما على غرار من يَرجُم بالغيب ادِّعاءً وجهلا. فكيف كان ذلك؟ لا بُدّ، أوّلا، من مُلاحَظة أنّ لفظ "عَلْمانيّة" يَتكوّن من جُزأين: اسم "عَلْم" (من "عَلَمَهُ/يَعْلُمه" بمعنى «وَسَمَهُ» أو «وَضَع عليه علامةً») ولاحقة النَّسَب المؤنث "انيّة". فأمّا اسم "العَلْم"، فيدل على معنى "العالَم" (وبالتالي، يُعَدّ خطأً شائعا نُطقه بكسر "العَين" كما لو كان الأصل فيه لفظ "العِلْم"!). وأمّا لاحقةُ "انيّة"، فتدُل على «معنى المُبالَغة» لأنّها تزيد بحرفين ("ان") على لاحقة النَّسب العاديّ ("يٌّ/يَّةٌ" و"وِيٌّ/وِيَّةٌ"). وبما أنّ "عَلْمانيّة" تتميّز صرفيّا عن «عَلْميٌّ/عَلْميّةٌ» و«عالَميٌّ/عالَميّةٌ»، فإنّها لفظٌ يُفترَض فيه أن يُفيد حرفيّا معنى «ما يَتّصف بشدّةِ الانتساب إلى "العالَم"». لكنْ ينبغي الانتباه، بهذا الصدد، إلى أنّ في كل من الفرنسيّة والإنجليزيّة ستّةَ ألفاظ تُؤدِّي معاني مُختلفة بحيث يجب التّمييز بينها في العربيّة أيضا: إذْ هناك، في الفرنسيّة، ستّة ألفاظ أوّلُها لفظ «laïc/séculier» (صفتان بمعنى «ما ليس جُزءا من الهيئة الكنسيّة للكهنوت [أو رجال الدِّين]»، ثُمّ «ما هو مُستقلّ عن أيّ عقيدة دينيّة» كما في «Le Petit Robert»)، وثانيها لفظ «laïcité» (اسم بمعنى «طابع ما ليس دينيّا أو كنسيّا أو كهنوتيّا»، و«مبدأ الفصل بين المجتمع المدنيّ والمجتمع الدينيّ، بحيث لا تُمارس الدولة أيّ سلطة دينيّة ولا تُمارس الكنائس أيّ سلطة سياسيّة.» كما في «Le Petit Robert»)، وثالثها لفظ«laïcisme» (اسم بمعنى «المذهب الذي يَميل إلى أن يُعطي للمؤسسات طابعا غير دينيّ»)، ورابعها لفظ «laïciste/laïcisant» (صفة بمعنى «من يَتبنّى المذهب الدّاعي إلى جعل مؤسسات المجتمع ذات طابع غير دينيّ»)، وخامسها لفظ «laïcisation/sécularisation»(اسمان بمعنى «فِعْلُ جَعْل الشيء غير دينيّ أو غير كنسيّ» و«مُمارَسة التّنظيم وَفق مبدأ الفصل بين الدّين والدّولة» و«انتقال/نقل جماعةٍ مُنظَّمة دينيّا أو فردٍ دينيّ إلى الحياة المدنيّة/الدُّنيويّة» و«انتقال/نقل مِلْكٍ دينيٍّ أو كنسيّ إلى مجال الدّولة أو إلى شخص معنويّ خاضع للقانون العامّ» كما في «Le Petit Robert»)، وسادسها لفظ «laïciser/séculariser» (فعلان بمعنى «جعله غير دينيّ أو غير كنسيّ» و«نظَّمه وَفْق مبدأ الفصل بين الدِّين والدّولة» و«نَقَله إلى المجال العموميّ للدّولة»)؛ وفي الإنجليزيّة ستّة ألفاظ كذلك، أوّلُها لفظ «secular» (بمعنى «صفةُ ما ليس له صلة بالأمور الروحيّة أو الدينيّة» و«صفةُ من يعيش بين الناس العاديِّين وليس في جماعة دينيّة» كما في «Oxford Advanced Learner's Dictionary »)، وثانيها لفظ «secularism» (بمعنى «الاعتقاد بأنّ الدِّين يجب ألّا يَتدخّل في تنظيم المجتمع، التربية، إلخ.»)، وثالثها لفظ «secularist» (بمعنى «صفةُ من يَعتقد أنّ الدِّين يجب ألّا يَتدخّل في تنظيم المجتمع والتربية وغيرهما.»)، ورابعها لفظ «secularization» (بمعنى «فِعْل أو سيرورة إزالة ما يُمارسه الدِّين من تأثير أو سلطة على شيء ما.»)، وخامسها لفظ «secularize» (فعلٌ بمعنى «أَخْرَجه من مجال تأثير أو سُلطة الدِّين»)، وسادسها لفظ «secularity» الذي وُلِّد حديثا بالقياس على اللفظ الفرنسيّ «laïcité» ولأداء معناه نفسه إلى حدٍّ بعيد. فكيف نُقلتْ هذه الألفاظ ومعانيها إلى "العربيّة"؟ إنّنا نجد في "العربيّة" خمسة ألفاظ مُستعملَة بهذا القدر أو ذاك: «عَلْمانيٌّ/عَلْمانيّةٌ» (صفةٌ واسم)، «لائكيٌّ/لائكيّةٌ» (صفة واسم)، «عَلْمَنَ/عَلْمنةٌ» (فعلٌ واسمه)، «لادينيّ/لادينيّةٌ» (صفةٌ واسم)، «عَلْمانويٌّ/عَلْمانويّةٌ» (صفةٌ واسم). ولتَبيُّنِ مدى وجاهة هذه الألفاظ، يُحتاج إلى إدراك أنّ لفظَ «عَلْمانيٌّ/عَلْمانيّةٌ» وُضِع في الأصل لترجمةِ صفة «secular/laïc/séculier» (بمعنى «ما ليس جُزءا من الهيئة الكنسيّة للكهنوت [أو رجال الدِّين]»، ثُمّ «ما هو مستقلّ عن أيّ عقيدة دينيّة» أو «صفةُ ما ليس له صلة بالأمور الروحيّة أو الدينيّة» أو «صفةُ من يَعيش بين الناس العاديِّين وليس في جماعة دينيّة») و/أو لترجمة اسم «secularism/laïcité» (بمعنى «طابع ما ليس دينيّا أو كنسيّا أو كهنوتيّا» أو «مبدأ الفصل بين المجتمع المدنيّ والمجتمع الدينيّ، بحيث لا تُمارس الدولة أيّ سلطة دينيّة ولا تُمارس الكنائس أيّ سلطة سياسيّة.» أو «الاعتقاد بأنّ الدِّين يَجب ألّا يتدخّل في تنظيم المجتمع، التربية، إلخ.»). وأنّ لفظ «لائكيّ/لائكيّةٌ» ليس سوى تعريب للّفظ الفرنسيّ «laïc/laïcité». وإذَا كان لفظُ «عَلْمانيٌّ/عَلْمانيّةٌ» قد شاع أكثر من «لائكيٌّ/لائكيّةٌ» و«لادينيّ/لادينيّةٌ»، فإنّه يبقى - رغم شُيُوعه- مُلتبسًا إلى حدٍّ بعيد: لأنّه يُخفي أنّ الأمر، في المُصطلح الأجنبيّ، يَتعلّق أساسا بمعنى «تعطيل الدِّين في المجال العموميّ»؛ ولأنه لا يُمكِّن من إدراك أنّ المُصطلح الأجنبيّ يقوم على اعتقاد أنَّ «شُروط ٱلوُجود وٱلفعل في هذا "ٱلعالَم" هي وحدها ٱلحَكَم في تحديد ٱلقِيَم ٱلمُوجِّهة، عُموميّا ومَدنيّا، للسُّلوك ٱلإنسانيّ» ؛ ولأنَّه لا يُتيح التّمييز بين معنى «طابع ما ليس دينيّا أو كنسيّا» (وهو معنى عاديّ لا يحتاج إلى استعمال لفظ تَظهر فيه لاحقةُ المُبالَغة «انيٌّ/انيّةٌ»!) ومعنى «الاعتقاد بأنّ الدِّين يجب ألّا يَتدّخل في المؤسسات العموميّة للمجتمع» (وهذا هو السبب في توليد لفظ «عَلْمانويّ/عَلْمانويّة» لأداء ذلك المعنى الذي يُعبِّر عن مذهب الدّاعين إلى «تعطيل الدِّين»!)؛ ولأنّه - أكثر من ذلك كلِّه- يَختلط ويُخلَط بلفظ «عِلْماني/عِلْمانيّة» حتَّى عند بعض ٱلمُتخصِّصين، على الرغم من تكرار التّأكيد بأنّه يَنبغي فتح "0لعَيْن" في ٱلأُولى وكَسْرها في ٱلثانية («عِلْماني/عِلْمانيّة» في مقابل «scientistic/scientism»). وبالتالي، فإنّ «عَلْمانيّ/عِلْمانيّة» ليس سوى ترجمة فاسدة لما كان يُمكن أن يُؤدَّى معناه بلفظ «لادينيّ/لادينيّةٌ» أو حتّى بتعريب مثل «لائكيٌّ/لائكيّةٌ» (رغم أنّ هذا اللفظ الأخير يَفْضُل لفظ "عَلْمانيّ/عَلْمانيّة" بقُربه 0لصوتيّ من ٱللّفظ الفرنسي، فإنه يَلتبِسُ بكلمات عربيّة قريبة منه صوتيًّا/صرفيًّا مثل "ملائكة" و«أَلَكَ/يَأْلِكُ» ومُشتقّاته "أَلْكٌ" و"أليكةٌ" و"آلِكٌ"، وأيضا «لَاك/يَلُوك» ومُشتقّاته "لَوْكٌ" و"لائِكٌ" و"مَلُوكٌ"؛ ممّا يَحُدّ من وجاهته). إنَّ ٱلمُصطلحَ ٱلأجنبيّ «secularism/laïcisme» يَعني «0لنّزعة ٱلتي يرى أصحابُها ضرورةَ جَعْلِ كُلِّ مُؤسَّسات ٱلمجتمع، التي تُعنى بالشّأن العامّ، خارج سلطة "ٱلكنيسة" و"رجال ٱلدِّين" و، من ثَمّ، جَعْل "ٱلشّعب" بكل فئاته صاحب ٱلسِّيادة في جميع شُؤون "ٱلحياة ٱلدُّنيا" وتَرْك ٱلحُريّة للأفراد فيما يَتعلَّق بشؤون "ٱلحياة ٱلأُخرى"». إذْ أنَّ لفظ «laïc»، ٱلذي هو ٱلأصل في ٱلمُصطلح ٱلفرنسيّ، يرجع إلى ٱللّفظ ٱللاتينيّ "لَيْكُوس" («laïcus») ٱلمأخوذ بدوره من ٱللّفظ ٱليُونانيّ "لَيْكُوس" («λαϊκός»)، ٱلذي يَعني "ٱلمُتَدَنِّي" أو "ٱلمُدَنَّس" أو "ٱلدُّنيويّ" أو "ٱلعامّيّ" (كصفةٍ غالِبةٍ على ما له صلة ب"ٱلشّعب" الذي يُسمّى في اليُونانيّة القديمة "لَاوُس" [«»]، أو كصفةٍ لِمَا يَأتيه "عامّة ٱلنّاس")، وذلك في تَعارُضه مع معنى "ٱلخاصّ" أو "ٱلكَنَسيّ" أو "ٱلمُتعلِّم/ٱلْعالِم" (الذي يَحمِلُه اللّفظ اليُونانيّ "كليريكوس" [«ó»] في معناه الأصليّ «ما له صلةٌ بالحظّ» أو «النّصيب الذي يَرِثه المحظوظ» أو «النّصيب المُعطى لرَجُل الدِّين أو الكنيسة»، وهو الذي أعطى لفظ "كليريكوس" اللاتينيّ [«clericus»] الذي صار «clerc» في الفرنسيّة و«cleric » في الإنجليزيّة بمعنى "رَجُل ٱلدِّين" أو "ٱلدِّينيّ" أو "ٱلكَنَسيّ"). وكذلك فإنَّ ٱللَّفظين ٱلإنجليزيَّ «secular» وٱلفرنسيّ «séculier» يَرجِعان إلى ٱللَّفظ اللاتينيّ "سَيْكُولَرِيس" [«sæcularis»] بمعنى «زمنِيّ/عَصْريّ» في مُقابِل «كنَسيّ/دينِيّ» (والأصل في هذا ٱللفظ ٱللاتينيّ أنّه نَسَبٌ إلى لفظ "سَيْكُولُوم" [«saeculum»] بمعنى "عالَمٌ"). وهكذا، يَتضافر ذانِك ٱللَّفظان الأجنبيّان ("لَيْكُوس" و"سَيْكُولَرِيس") ليُؤدِّيَا معنًى ٱصطلاحيًّا أساسيًّا: «كُلّ ما له صلةٌ بإخضاع أُمور هذا "ٱلعالَم" للعقل ٱلإنسانيّ ٱلذي يُفترَض أنّه مُشترَكٌ بين ٱلنّاس كافّةً، وإبعاد "ٱلكنيسة" و"رجال ٱلدِّين" من ٱلِاستبداد بتَدْبير شُؤون "0لحُكم" و"ٱلتّعليم" و"0لإدارة" و"0لِاقتصاد" و"0لفكر" و"0لفن"». ونجد أنَّ ذلك ٱلمعنى يُؤدِّيه في "ٱللِّسان ٱلعربيّ" مُصطلحان: أوَّلُهما يُمكِن توليدُه من "0لدَّهْر" بمعنى «0لزّمان مُطلقًا» ويَستنِد إلى مُصطلح "0لدَّهْريّة"، كما عُرِف من قبل، ٱلذي يَدُلّ على «مذهبِ مَنْ كانوا يقولون - كما ورد في "ٱلقرآن ٱلكريم"- «وقالوا: "ما هي إلا حياتُنا الدُّنيا، نَموت ونَحيا وما يُهلِكُنا إلّا الدَّهْر!"[...]» (ٱلجاثية: 24). وبِما أنَّ ٱلأمرَ يَتعلَّق ب"نَزْعة" (أو "مذهب")، فيَجب أنْ تُسمَّى "دَهْرانيّةً" (باستعمال لاحقة المُبالَغة "انيّة")، و0سمُ "ٱلتَّفْعيل" منها هو "ٱلتَّدْهير" في مُقابِل ٱللّفظ الأجنبيّ «secularization/laïcisation»، حيث هو اسم مأخوذ من فعل "دَهَّرَهُ" بمعنى «جَعَلهُ دَهْرِيًّا» أو «أعطاه صِبْغةً دَهْرِيَّةً» ؛ والمُصطلَح ٱلثاني مَوجودٌ أيضًا في ٱلآية السالِفة نفسها هو "ٱلدُّنيا"، ومنه يُمْكِن توليدُ مُصطلَحِ "0لدُّنْيانِيّة" للدّلالة على تلك ٱلنّزعة نفسها، و0سم "ٱلتّفْعيل" منه هو "ٱلتَّدْنِيَة" (من "دَنَّاهُ" بمعنى «جَعلَه دُنْيوِيًّا» أو «أعطاه صِبْغةً دُنيوِيّةً»، بحيث يكون "دَنَّاهُ" مثل "دَهَّرهُ") الذي معناه مُساوٍ لمعنى "0لتَّدْهير" عينه (وكل من "0لتَّدْنِيَة" و"0لتَّدْهير" يُؤَدِّيان معنى اللّفظ الأجنبيّ «secularization, laïcisation/sécularisation»). كما يَجدُر أنْ يُلاحَظ أنَّ مُصطلَح "العَلْمانيّة"، بمعنى "الدَّهْرانيّة" أو "الدُّنيانيّة"، يتميّز عن مُصطلَح "ٱلعِلْمانيّة" الذي هو 0سمٌ مُولَّدٌ بالنَّسَب إلى لفظ "0لْعِلْم" بواسطة لاحقةِ 0لمُبالَغة «انِيٌّ/انِيَّة»، مِمّا يَجعلُه مُصطلَحًا يُؤدِّي معنى «ٱلنَّزعة ٱلفلسفِيّة ٱلتي ترتبط بالوَضْعانيّة والتي تُبالِغ في تقدير قيمة "ٱلْعِلْم" إلى حدِّ القول بأنّه قادرٌ على أنْ يَجعلَنا - عاجلًا أو آجِلًا- نُدرِكُ كل ٱلأشياء، وأنّه يَستطيع وحده أنْ يُلَبِّيَ كل آمال ٱلإنسان». فلفظُ "عِلْمانيّة" - إذًا- مُصطلَحٌ عربيٌّ يُقابِل اللّفظ الأجنبيَّ «scientism/scientisme». ويُمكن، من ثَمّ، تأكيد أنّ لفظ "0لعَلْمانيّة" (باعتباره 0سما مُولَّدا بالنَّسَب إلى لفظ "0لْعَلْم" بواسطة لاحقةِ المُبالَغة «انِيٌّ/انيّة») كان يجب أن يُوضع في مُقابِل اللّفظ الأجنبيّ «secularism/laïcisme» ٱلذي يَدُلُّ على «0لنَّزعة التي تَذهب إلى أنَّ شُؤون هذا "0لعالَم 0لدُّنيويّ" يَنبغي (بل يَجب) أنْ تُفْصَل عن "0لدِّين" في 0شتغاله ب"0لعالَم الأُخْرَوِيّ" (و0نحصاره فيه)». لكنّ إمكان توليد لفظيْ "0لدَّهْرانيّةَ" و"0لدُّنْيانيّةَ" يُغني عن لفظ مُلتبس ك"عَلْمانيّة" ويُفيد في التعبير بوضوح عن معنى «تلك ٱلنَّزعة ٱلتي تُؤكِّد أنَّ أُمور "0لحياة ٱلدُّنيا" يَنْبغي (بل يَجِب) ٱلِاحتكامُ فِيها إلى "ٱلعقل ٱلبشريِّ" (في تَغيُّره ونِسبيّته)، وليس إلى "ٱلوحي" و"0لدِّين" (في ثَباته وإطلاقيّته)»، بل يُمَكِّن أيضا من جعل صفة «دُنْيانِيّ/دَهْرانِيّ» تَدُلّ على «مَا/مَنْ يَستنِدُ إلى "0لدَّهْرانيّة/0لدُّنْيانيّة"» (في مقابل اللّفظ الأجنبيّ «secularist/laïciste»). ومن حيث إِنَّ ٱلأمرَ يَتعلَّق، أساسًا، بتوجُّه قائم على مُناهَضةِ سُلطان "0لدِّين" و0لقَيِّمِين عليه في مُجتمعٍ يُفترَض أنّه يَتحدَّد ك«مُجتمع مَدنِيّ» (وهو ما قد يُؤدِّي إلى نوعٍ من التّطرُّف في إبعاد "0لدِّين" والعمل على "تَعْطيله" تَمامًا، بحيث نَصِيرُ أمام نزعةٍ تَدَّعِي أنَّها "لادِينِيَّة" بإطلاق)، فإنَّ لفظيْ "ٱلدُّنْيوِيّة" و"ٱلدَّهْرِيَّة" - في دلالتهما على «0لطابع الدُّنْيوِيِّ/0لدَّهْرِيِّ للوُجود والفعل 0لبشريَّيْن» كان يَنبغي أن يُوضعا في مُقابل اللفظ الأجنبيّ «secularity/sécularité/laïcité»، خصوصا أنهما يَدخُلان في تَقابُلٍ دالٍّ مع مُصطلحِ "0لدِّينيّة" (بمعنى "0لطابع 0لدِّينيِّ" في مُقابِل «religiosity/religiosité») الذي يُقوِّيه التّقابُل المعروف بين "0لدِّين" و"0لدُّنيا" (على الرغم من عدم وجاهته في "0لإسلام"، لكونه - بما هو "دِينٌ"- يَشمَل "0لحياة 0لدُّنيا" و"0لحياة 0لآخرة" كلتيهما). يَتبيّن، بناءً على ما سلف، أنّ لفظيْ «laïcité» و«secularity» لا يُترجمهما لفظ "عَلْمانيّة" (الذي يُمكنه أن يُترجم، إلى حدٍّ ما، معنى لفظيْ «laïcisme» و«secularism»)، وإنّما يُترجمهما بالأساس لفظ مثل "لادينيّة" لأنّ الأمر في المصطلح الأجنبيّ يَتعلّق بمعنى «طابع ما ليس دينيّا» أو «مبدأ الفصل بين "الدينيّ" و"الدُّنيويّ"»، وهو الأمر الذي يقود إلى القول بأنه لا دين في السياسة ولا في التربية ولا في العلم ولا في الفن، أيْ أنّه يُوجب حصر كل شيء في «الحياة الدُّنيا» كمجموعة من الشروط المُشترَكة بشريّا؛ مِمّا يَجعل لفظيْ «دُنيويّة» و«دَهْريّة» أولى من غيرهما بأداء هذا المعنى. وإلّا، فإنّ من يُنكر أهميّة «الحياة الآخرة» لن يَتردّد عن إنكار "الوحي" و"النبوّة" و"الدِّين" و"الألوهيّة"، بحيث يَصير لفظا "الدُّنيانيّة" و"الدَّهْرانيّة" أنسب لنقل معنى «النُّزوع إلى إنكار "الدِّين" والدّعوة إلى تعطيله». ورُبّما لم يَعُدْ صعبا أن يُدرَك أنّ لفظيْ "عِلْمويّة" و"عَلْمانويّة" غير مُستساغين في نسق "العربيّة": لأنّهما وُضعا بتوهُّم أنّ لاحقة «وِيٌّ/وِيّةٌ» تُفيد معنى قدحيّا، في حين أنّها لا تُفيد إلّا نفس معنى لاحقة «يٌّ/يَّةٌ» في الدّلالة على الصفة والاسم النَّسبيَّيْن. ومن يَرفُض هذا، فيجب عليه أن يُعلِّل كيف أنّ لاحقة «وِيٌّ/وِيّة» لا تُؤدِّي ذلك المعنى القدحيّ إلّا في بعض الألفاظ دون باقي الألفاظ من مثل "يَدويّة" و"فمويّة" و"شفويّة" و"لُغويّة" و"تربويّة" و"قضويّة"؟! أليس تعذُّر النَّسب إلى ألفاظ "يد" و"فم" و"شفة" و"لغة" و"تربية" و"قضيّة" هو الذي فرض إضافة "الواو" قبل لاحقة النَّسب العاديّة «يٌّ/يَّةٌ»؟ أوَلَا يَمنع جوازُ النَّسب إلى لفظيْ "عَلْم" و"عِلْم" بلاحقة النَّسب العاديّة اللُّجوء إلى لاحقة «وِيٌّ/وِيّة»؟! ألَا يُوجب توفُّر لاحقة النسب غير العاديّة «انيٌّ/انيّةٌ» اعتمادها لأداء «معنى المُبالَغة» أو ما يُشبهه؟! ولا حجة، هُنا، بكون لفظيْ "عِلْمويّة" و"عَلْمانويّة" استعملهما أشخاص مثل "محمد عابد الجابري" و"محمد أركون"، لأنّ هذين الشخصين بالذات لا يُعوَّل عليهما بهذا الخصوص: فأوّلُهما كان خطّاءً في استعماله للعربيّة رغم أُنوف الذين فاتَهُم تحصيل ما يكفي لتبيُّن حقيقته بما هو كذلك (وهو ما حاولتُ بيان شيء منه في مقالات سابقة عنه وستأتي، إنْ شاء اللّه، مقالات أُخرى في الاتجاه نفسه)، وثانيهما لم يَثبُتْ قطّ أنه كان مُجيدا لها بما يُسوِّغ الأخذ عنه فيما ارتآه ؛ بل لو أنّه كان يُتْقنها، لكتبَ بها أصلا أو لتَرْجَم بنفسه كُتبَه إليها التي تركها لحورايِّه "هاشم صالح" يَتلاعب بها كما شاء له سُوء فهمه وسُوء ظنِّه! والثابت، فيما وراء ذلك، أنّ "اللُّغة" لا يُقال فيها بالتّوهُّم أو التّحكُّم، وإنّما العُمدةُ في القول بالصواب - فيها وفي غيرها- توفُّر الدّليل البيِّن والحُجّة القاطعة. ولا شيء من هذا فيما ذهب إليه "الجابري" أو "أركون". وعلى المُتلكِّئ أن يَأتيَ ببُرهانه إنْ كان صادقا! أخيرا، يبدو أنّه قد يكون مُفيدا أن يُشار إلى أمرين طريفَيْن: أحدهما يَتعلّق بالمقابلة، الموجودة في عنوان المقال، بين "تَرْجمة" و"ترجيم"، والآخر يَهُمّ توليد فعل "عَلْمَنَهُ" واسمه "عَلْمَنةٌ". فأمّا المُقابلة بين "ترجمة" و"ترجيم"، فهي بالأحرى راجعةٌ إلى المُقابلة بين "التّرجمة" (بما هي نقلُ ما أمكن التّعبير عنه في لسان ما إلى لسان آخر) و"التّرجيم" (بما هو «تكلُّمٌ بالظنّ» لا يُتيح إلّا إظهار إمكان من الإمكانات المُقَدَّرة في اللِّسان النّاقل من دون ترجيحه على غيره)، وهي المُقابَلة التي غابتْ عن الذين نَقلوا العبارة الإيطاليّة المشهورة «تْرادُوطُّوري، تْرادِطُّوري» («traduttore traditore»: مُقابلها الحرفيّ «المُترجم خائنٌ») بقولهم «التّرجمةُ خيانةٌ»، فصار كثيرون يُردِّدونه ويَبنُون عليه أشياء كثيرة في تصوُّرهم الفاسد لعمل الترجمة. غير أنّ العبارة الإيطاليّة فيها "جِناسٌ" بين لفظيْ «تْرادُوطُّوري» و«تْرادِطُّوري» هو الأصل في "الطِّباق" بين معنى لَفظيْ "مُترجم" (أو "ترجمة") و"خائن" ("خيانة"). وهذا ما تقترب منه كثيرا المُقابلة بين لفظيْ "ترجمة" و"تَرْجيم". وأمّا توليد فعل "عَلْمَنَهُ" واسمه "عَلْمَنةٌ"، فمَبْنيٌّ على توهُّمِ أصليّةِ صوت/حرف "النُّون" في لفظ "عَلْمانيّة". لكنّ هذا التوهُّم يبقى توهُّما لأنّ صوت/حرف "النُّون" ليس أصليّا، وإنما هو ناتج من لاحقةِ النَّسب «انيٌّ/انيَّةٌ»! وأشدّ من ذلك أنّ تجويزَه يَسمح بالقياس عليه كما حصل في قولهم «أرْخَنه/أرخنةٌ» و«أنْسَنه/أنْسَنةٌ» و"دَهْرَنه/دَهْرَنةٌ» و، من ثَمّ، إماتة فعل "التَّعْديّة" بصيغة "فَعَّلَه" الذي هو مُشتقٌّ من الصيغة الأصليّة "فَعَل" (الصواب، بهذا الصدد، أن يُقال: «أرَّخه/تَأْريخٌ» و«أنَّسَه/تأْنيسٌ» و«دَهَّرَه/تَدْهيرٌ»، وأيضا «دَنَّاه/تَدْنيَةٌ» وليس ["دَنْيَوَهُ/دَنْيَوةٌ"] كما اشتهر عند بعض المَشارقة!). وإنْ تكنْ ثمة فائدةٌ في ذكر ذَيْنك الأمرين الطَّريفَيْن، فهي تأكيد أمرين آخرين: أوّلُهما أنّ فساد التّرجمة في مجال التّداوُل العربيّ أعمق وأدهى مِمّا يُظّن عادةً، لأنّها في الواقع كارثةٌ لُغويّة وثقافيّة من دون أدنى مُبالَغة ؛ وثانيهما أنّ التّصويب مطلوبٌ دائما ليس فقط لأنّه ليس هناك من لا يُخطئ في اللغة (كما في غيرها)، بل لقطع الطريق على الذين يُبيحون الخطأ بإطلاق كأنّهم يُريدون إعادة إنتاج «الإباحيّة الخُلقيّة» في صُورةِ «تسيُّب لُغويّ» من شأنه أن يجعل الكلام يُؤتَى كيفما اتّفق. وقد لا يخفى أنّ هذين الأمرين مُتلازمان، حيث إنّ الجزء الأكبر من فساد الترجمة العربيّة سببُه أنّ المُتطفِّلين عليها لا يُتْقنون اللِّسان العربيّ بما يكفي لإقدارهم على تفادي "التّرجيم" و، بالتالي، إنجاز ترجمات جيِّدة التّأويل ومُتقنَة البيان على غرار المُترجمين في الألسن الأُخرى. ولَيْتَ المَعْنيِّين بيننا يَكُفُّون عن الاستسهال ويَنْهضون بمُقتضيات الاجتهاد بناءً مُعلَّلا وتجديدًا مُؤصَّلا! تنبيه: [وُظِّف في هذا المقال جزءٌ كبير من مقال سابق بعنوان «"العَلْمانيّة" بين "تحييد الدولة" و"تعطيل الدِّين"» نُشر بموقع "هسبريس" (25-05-2011) وصار، بعد تنقيحه، الفصل الرابع عشر من كتاب «الإسلام يُسائل الحداثة»، إربد الأردن، 2013، ص. 153-160].