هل يحتاج المواطن المغربي إلى مسافة كافية بينه وبين العديد من الوقائع والأحداث لكي يفهمها جيدا ويستوعب مجرياتها ومعطياتها، ويستخلص بالتالي من نتائجها العبر والدروس الضرورية ؟ ذلك ما يبدو ضروريا أيضا في المشهد السياسي المغربي الراهن، وخصوصا بالنسبة إلى قراءة وفهم ما تلى عملية «ترميم» حكومة (ال»39 وزيرا») للسيد «عبدالإله بنكيران» في نسختها الثانية. لسنا هنا لنستكثر على السيد رئيس الحكومة أو على هيئة سياسية معينة موقعا ما في أعلى مسؤوليات أو مناصب الدولة، كما قد يتبادر إلى الأذهان والنفوس المهووسة دائما بنظرية «المؤامرة» أو المُفتعِلة كل مرة لشعار أو تهمة «أعداء الوطن» أو «أعداء الديمقراطية»، على أساس أن من يجاهر بنقد الممارسات والتصورات السياسية غير الصحيحة للفاعلين السياسيين في المغرب، يتعمد ألا يرى في الوطن سوى جوانبه السوداء وغير الإيجابية. كلنا أبناء لهذا الوطن، ولا نريد كذلك أن نحصر جوهر العطب أو الخلل في مسألة «التوافقات والترضيات السياسية» التي حصلت، وفي مفاوضات المرور إلى «أقسام الامتيازات العليا» في اسم أو اسمين أو ثلاثة من وزيراتنا ووزرائنا الحاليين، أو حتى في فصيل سياسي معين دون غيره من هذه الأجهزة التي أصبحت بدورها في أمس الحاجة إلى المراجعة والدمقرطة والتحديث وتقدير المسؤولية الوطنية والسياسية، بل أكثر من ذلك، إلى المراقبة والمحاسبة الشعبية الواسعة. المسألة على قدر كبير من الأهمية. إذ يكون على هاته المراقبة والمحاسبة أن تشمل أيضا جميع المستويات وجميع «المسجلين» (الجدد منهم والقدماء) في قوائم «مدرسة الوزارة» أو مؤسسة الحكومة، حتى يقتنع العبد لله وكل مواطن في هذا البلد بأن التصحيح وتخليق السياسة والحياة العامة خيار نهائي لا رجعة فيه ولا نفعية ولا انتقائية فيه كذلك. أما الأسماء هنا (أسماء الوزراء أو اللاعبين الكبار) مثل مواقع وجودها كذلك، قد لا تعنيني في شيء، وليس من الضروري تسميتها والإشارة إليها بشكل مباشر: لسبب واحد فقط: هو أن المغرب الراهن (جُل المغرب) قد تجاوز مرحلة الحَجْر السياسي، ولعبة حجب شمسه الجميلة بغِربال. أصبح المغرب كما العالَم بيتا من زجاج: كل شيء فيه واضح وجلي المقاصد. المغرب: بلدي الذي مازلت أراه بسعة الحلم و»وجع التراب». هو الممكن أيضا في حلمنا أو في وهمنا الجميل (ما الفرق؟). إذ في الوقت الذي يسعى أو يطمح فيه بلدي مثل مواطنيه البسطاء إلى ديمقراطية حقيقية، وسياسيين حقيقيين، ومسؤولين حقيقيين، وحكومات حقيقية، يبدو جسده الفتي مازال متأرجحا بين هذا «الكائن» و»الممكن» في الخيار المؤجل والمحلوم به (خيار العبور إلى ديمقراطية حقيقية)، ومازال أيضا عُرضة لشتى أشكال الاختراقات والممارسات السياسية الهجينة والنفعية والريعية. من ثم، يكون على هذا المغرب (كل المغرب) أن يقطع نهائيا كذلك مع هذه الاختراقات ومثل هذه الممارسات. إذ ذاك سيتخلى الكثير من المغاربة عن كل خيارات الهجرة إلى الخارج (السرية منها والقسرية)، وسيقتنع العبد لله (رغم أنفه) مثل كل مواطن مغربي فعلا بخيار «الداخل» الذي ينبغي أن يتعزز ويتقوى فقط، بالنقاء والأمل والثقة الكاملة في السياسة والممارسات والمؤسسات. مَن في استطاعته أن يقدم للعبد لله إجابات واضحة وشافية؟ أجوبة تجعلني ككل مغربي أنام كل ليلة وفي عينيَّ «وطن بسعة الحلم»؟ إن الجواب وإن كان يبدو متعذرا الآن أو غير قريب وغير مُدرَك من قبل الجميع وبما فيه الكفاية، فإن ملامحه أصبحت جلية وظاهرة أيضا في إطار هذا «الممكن» الذي ظللنا ومازلنا نرقبه ونحلم به. ومهما اتسعت أو تعددت «سوق السياسة» في بلدي وتداخل لغطها بغبارها، وتحول «زبناؤها» إلى تجار أو بضائع (لا فرق)، فإن قناعتي تزداد رسوخا في أن المغرب لابد وأن يتغير.. وأن الرسائل قوية ولا غبار عليها.. وأن المراقبة والمحاسبة الشعبية لابد وأن تتحرك (على الأقل كخطوة أولى) في الاتجاه الصحيح، وأن «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة» كما يُقال.. وأن الزمن يدور كما تدور الناعورة.. وأن الوطن مثل الخالق «يُمْهِل ولا يُهمِل».. وأن ساعة الحقيقة آتية لا ريب فيها.. وأننا شهود على زمن الصفقات والترضيات.. وأننا خطَّاؤون بقصد أو عن غير قصد، عن طيب خاطر أو بإكراه .. وأن علينا جميعا أن نعتذر لهذا الوطن فقط.