من مفهوم »حكم الشعب« إلى مفهوم »حكم الشعب بالشعب« إلى مفهوم »حكم الشعب بالشعب وللشعب»، بقي الشعب أساس الديمقراطية، حتى قيل بالديمقراطية الشعبية تدليلا على إرادة أفراد الشعب في اختيار الحكام والمحكومين. ومع تعاقب التجارب السياسية والقانونية في حكم الدول، ومع بروز دور الدين في تنظيم شؤون المجتمع والعامة من الناس، صارت للديمقراطية قيم، أو معايير إنسانية حضارية، هي بمثابة دليل عام على سيادتها وسعي الجمهور إلى بلوغها. بيد أن تطبيقات الديمقراطية أثارت إشكاليات متراكمة. فلم تعد الديمقراطية المباشرة متيسرة من الناحية العلمية، مع زيادة عدد أفراد الشعب، أي أن ديمقراطية أثينا القديمة صارت مستبعدة. لذلك شرح روسو فكرة الديمقراطية التمثيلية، حيث تفوض الأمة إلى ممثليها بالانتخاب بعض الشؤون التشريعية أو السياسية، ومن هنا انبثقت فكرة الوكالة النيابية. لكن المتأمل اليوم في التجربة اليونانية، واختبار المواجهة والصمود بسلاح الاستفتاء الشعبي، بعد أن صوت اليونانيون بالاستفتاء الشعبي ب»لا» بنسبة 61.31%، ضد إجراءات التقشف التي يطالب بتنفيذها المقرضون الدوليون، مقابل إبرام اتفاق بشأن ديون اليونان، يتابع »تاريخا جديدا لأوروبا يُكتب اليوم بِمداد الشعوب«، على قول الأستاذ عبد العلي حامي الدين. اليوم الاتحاد الأوروبي يضع يده على قلبه خشية انتقال عدوى نجاح سيريزا إلى بقية الدول الأوربية، وهو الذي لازال يعيش على وقع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها على مشروع أوروبا الموحدة، وكذلك تخوفه من جراء الاستفتاء البريطاني المنتظر لسنة 2017، حول استمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو الانسحاب منه. كان الحدث في اليونان، ولأول مرة في تاريخ تجربة الاتحاد الأوروبي، دولة عضو يفوز فيها حزب يساري راديكالي في الانتخابات العامة ويتبوأ السلطة، ويصبح زعيمه أليكسس تريبراس أصغر رئيس وزراء يتولى المنصب في اليونان منذ 150 عاما. فرغم رغم صغر سنه (40 سنة)، وحداثة حزبه الذي تأسس سنة 2004، استطاع أليكسس أن يكوّن حكومته في مدة وجيزة بالتحالف مع حزب اليونانيين المستقلين. هو فوز اعتبره محللون ألمان بمثابة »فوز الغضب على الخوف وفوز الوهم على العقل«، في إشارة إلى أن سياسة التقشف هي السبب الرئيسي في هذا الحدث. فبعد أربع سنوات من عدم الاستقرار، ومن سياسات تقشفية قاسية مفروضة من «الترويكا» المتنفذة (الاتحاد الأوروبي، البنك الأوروبي، صندوق النقد الدولي) على اقتصادات الدول المأزومة (اليونان، إسبانيا وفرنسا…)، فجأة يدخل على الخط عامل جديد لم يكن مطروحا أمام سادة أوروبا الجدد، موجة يسارية جارفة حملتها صناديق الاقتراع، عنوانها رفض الاستراتيجيات الهيمنية ل»الترويكا» المتنفذة، والإعلان عن ميلاد مرحلة جديدة تتجاوز في معالجتها للأزمة مظاهرها السطحية إلى عمق أسسها الكامن في النموذج الرأسمالي. بعد هذه السياسة التقشفية القاسية وجد أليكسس تريبراس نفسه أمام وصفة إصلاح جاهزة تفرض على الاقتصاد اليوناني خطوات تؤدي إلى تحرير إضافي لسوق العمل، تخفيض المعاشات، تخفيض إضافي في أجور القطاع العام والزيادة في ضريبة القيمة المضافة الخاصة بالغذاء، والسياحة والمطاعم، بالإضافة إلى إلغاء الإعفاءات الضريبية الخاصة بالجزر اليونانية، كل هذا مع ضرورة سداد 1,6 مليار أورو لصندوق النقد الدول بشكل عاجل. مقابل هذا الوضع الحرج، قرّر أليكسس تريبراس ممارسة الديمقراطية المباشرة والواقعية، وذلك بالعودة إلى الشعب اليوناني ودعوته له بأن »يرد بشكل حر وعزيز كما يليق بتاريخه«، مذكرا قادة الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، في الوقت نفسه، بأن »أوروبا وطن مشترك للشعوب، ولا يوجد بها مُلاك وضيوف«. وبهذا الإجراء يكون أليكسس قد كسر العتمة التي في ظلها تعالج القضايا العمومية، ومنها القضايا الاقتصادية. الخبر طال الأسواق حول العالم سريعا، إذ ارتفع الجنيه الإسترليني أمام الأورو، إثر خبر الاستفتاء مباشرة وبدأ التغيير في الأسواق الآسيوية مع هبوط كل من مؤشر نيكاي، ومؤشر ASX 200 الأسترالي، ومؤشر كوسبي الجنوب كوري . اليوم، وبتقديم خطة اليونان الجديدة للمساعدات المالية أمام الاتحاد الأوروبي بعد نتائج الاستفتاء الشعبي، يقدم أليكسس تريبراس دروسا مهمة يذكر بها للعالم: أولا، لا يكفي القول إننا مع حكم الشعب تدليلا على تمسكنا بالديمقراطية، بل الديمقراطية ممارسة واقعية، قبل أن تكون نصوصا دستورية أو قانونية، أو شعارات سياسية مرفوعة بالمناسبات الجماهيرية العامة. ثانيا، لا ينبغي بالضرورة القبول بقواعد مجحفة لكي يتم الاعتراف بك كمتحاور محترم. ثالثا، الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر في أي مناخ كان، إذ أنها تفترض توفر عدد من العوامل على رأسها مسألة الثقة بالفرد الذي ارتقى إلى مرتبة المواطن الذي يساهم في صناعة السياسة العامة. رابعا، الاستفتاء الشعبي الذي يعطي للمواطنين، انطلاقا من إرادتهم الحرة، الحق المباشر في الرقابة على مسؤوليهم. باحث بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة