الاستفتاء الذي جرى في اليونان، والذي أفضى إلى رفض شروط ترويكا المانحين: المفوضية الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، قدم للجميع درسا أساسيا يتعلق بالديمقراطية الداخلية وبسيادة القرار الشعبي، وذلك بغض النظر عن تداعيات الموقف اليوم في اليونان وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي الذي يجد قادته أنفسهم أمام أحد أكبر التحديات في العقود الأخيرة. حزب سيريزا الذي يترأس الحكومة في اليونان، عقب تصدره نتائج الانتخابات الأخيرة، كان قد فاز بثقة الناخبين اعتمادا على برنامج يقوم أساسا على رفض الخضوع التام لشروط المؤسسات المالية الدولية، والإصرار على التفاوض وفق أسس جديدة لا تقبل سياسة التقشف المتطرفة على حساب أوضاع ومصالح الطبقات الشعبية الفقيرة، ولهذا لما فشلت المفاوضات اليونانية الأوروبية ورفضت بروكسيل تخفيض الديون العمومية التي تعجز أثينا عن تأديتها كاملة، عمد الحزب اليساري الحاكم إلى التوجه نحو الشعب عبر استفتاء عام. الخطوة في حد ذاتها تعتبر أساسية وتستحق التسجيل، أي الإنصات إلى الشعب في قرار استراتيجي ومصيري يهمه ويهم وضعه الاجتماعي اليومي، كما أن ذلك أحرج أوربا نفسها التي لما رفضت بعض شعوبها اتفاقية ماستريخت المحدثة للاتحاد الأوروبي عمدت إلى فرضها عبر التصويت داخل البرلمانات الوطنية، فضلا على أنها اليوم تخشى أن يتحول الرفض اليوناني إلى تقليد تلجأ إليه بلدان أوروبية أخرى، وتقلب هي بدورها الطاولة على شروط المؤسسات المالية الدولية، ومن ثم تتأسس ثقافة جديدة تحكم علاقة بعض البلدان الأوروبية الضعيفة اقتصاديا بمقرضيها، وتعتمد على منطق شرعية القرار الشعبي الديمقراطي في مقابل معادلات وسيناريوهات الخبراء والتقنوقراطيين الماليين. اليوم منح الأوروبيون أنفسهم مهلة تنتهي الأحد القادم، للتوصل إلى اتفاق مع اليونان، وهم يستعدون في حال عدم الاتفاق إلى "السيناريو الأسود"، أي خروج أثينا من منطقة الأورو، وقد صرح رئيس المجلس الأوروبي بأن اللحظة حرجة فعلا، ولا يمكن استبعاد السيناريو المذكور. ولكن الأزمة اليونانية تثير اليوم إشكالية أعمق من بعدها المالي الداخلي لتهم ما هو سياسي أيضا، أي ضرورة التوجه نحو مراجعة ديون البلدان التي اقترضت كثيرا في ظروف صعبة، وتغيير مقاربة هذه العلاقة في جوهرها، وهذا ما تخشاه أوروبا لكون وصول حزب سيريزا اليساري اليوناني إلى الحكم يتزامن مع تراجع أحزاب تقليدية أوروبية عديدة، ما يهدد بتنامي التوجه المقلد للخطوة اليونانية، خصوصا في ظل الحديث عن بدائل للمؤسسات المالية الأوروبية والدولية نفسها، أي التهديد بتغير جوهري في السياسة المالية الدولية برمتها. هناك إشارة ثانية لا تخلو من أهمية في الحدث اليوناني، وتهم وزير المالية يانيس فاروفاكيس، فبعد أن وصف مقترحات المؤسسات الدائنة وما تفعله مع بلاده ب "الإرهاب"، ونبه إلى أن فوز نعم المؤيدة للأوروبيين من شأنه أن يذل اليونانيين، وأعلن بأنه سيستقيل من منصبه في حال تحقق ذلك، أقدم على الاستقالة، وفضل مساعدة حكومة بلاده على التفاوض بدل الإصرار على منصبه الوزاري. الحدث اليوناني يستحق التأمل لكونه من مؤشرات بداية تغير أساسي في العقليات والمقاربات تجاه السياسات المالية العالمية. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته