بعد دراسة معمقة. وتفكير طويل. وطول أناة. وصبر. وتبصر. وتقليب الأمر على وجوهه كافة. واستنفاد الاحتمالات. بعد كل ذلك، وجدت أن من واجبي أن اعتذر وها أنا أفعل. أريد أولاً أن اعتذر من وباء إيبولا شخصياً. كنا قساة في حقه. كنا ظالمين. تسرعنا في الانقضاض عليه. نددنا ب«الخطر الوافد». ب«القاتل الكبير». ب«الوباء الفتاك». ب«المجرم الذي لا يرحم». لا أريد أبداً القول إن إيبولا كان لطيفاً. أو لذيذاً. أو رحيماً. لكنه لم يكن بالتأكيد كما نعتناه. يحق لنمسوي أو فنلندي أن ينهال على الوباء الجديد بنعوت كبيرة وقاسية. نحن أبناء مسرح النكبات لا يحق لنا. راجعت في نهاية العام حصيلة إنجازات هذا المجرم، فاكتشفت أنها متواضعة. 2655 وفاة في سيراليون. 3384 وفاة في ليبيريا. 1654 وفاة في غينيا. 7708 حصيلة قتلاه حول العالم. أنا صحافي من هذا الشرق الأوسط الرهيب. أحتقر هذه الأرقام. ليست لافتة. ولا قياسية. ولا راعبة. ولا مثيرة. لا تستحق أن نحجز لها مكاناً في الصفحة الأولى. لدينا ولائم مفتوحة أشد إثارة وقتامة. ثم ما هو هذا القاتل الكبير الذي تستطيع المختبرات لجمه وتستطيع الأمصال تحديه؟ نعتذر من إيبولا. أعتذر أيضاً من أهل الموصل. قبل شهور من وقوعهم بين «الأصابع الحانية» لتنظيم «داعش» حكى لي مسؤول عراقي عن جيش بلاده. قال إن بلايين الدولارات نُهبت أو أُهدرت. وإن آلاف العسكريين يغيبون تماماً عن قطعاتهم بموجب اتفاقات مع ضباطهم يحصل بموجبها هؤلاء على جزء من رواتب الغائبين فضلاً عن الإعاشة. قال إن العسكريين ينعتون زملاءهم الغائبين ب«الفضائيين». شككت في رواية المسؤول، وقلت لعلها من كيديات السياسة ضد نوري المالكي. ثم وقعت الواقعة، وأهدت الفرق المنهارة ترسانتها إلى «المجاهدين» لتعترف بغداد لاحقاً بوجود50 ألف «فضائي» في صفوف الجيش. وأعتذر، أيضاً، ممن تبقى على قيد الحياة من الأزيديين والشبك والصابئة المندائيين، فقد كتبنا عن إبادتهم واستعبادهم وسبي نسائهم، ولم يرف للعالم جفن أو رف متأخراً. ولا يفوتني في المناسبة أن أعتذر من أهل الرقة. نشرنا صور العدالة المطلقة في ساحاتها. صور مذبوحين ومصلوبين. فضلاً عن صور الجواسيس الذين حزت أعناقهم على يد المسلحين الجوالين وعلى مرأى من اليوتيوب والضمير العالمي. واغتنم هذه السانحة لأعتذر من الشعبين العراقي والسوري عن نشر صور إلغاء الحدود بين البلدين بعد عقود طويلة، تذمرنا خلالها من القلم الذي قطع جسد الأمة في مؤامرة سايكس – بيكو. ولا يفوتني هنا الاعتذار من عشيرة الشعيطات وسائر العشائر. ومن العائلات التي قضت تحت ركام منازلها في الفلوجة وتكريت وتلعفر وكوباني وحلب وحمص وداريا. ومن النازحين على أرض سورية. ومن اللاجئين على أطرافها. طافت صور الساحات العربية المستباحة العالم. تلزم أنهار كثيرة لإزالة الدم المتراكم تحت أظافر جون كيري وسيرغي لافروف. وأريد أن أعتذر أيضا من «شباب الثورة» هنا وهناك وهنالك. ومن تكرار مصطلح «الربيع العربي». أرضنا عجيبة. نزرع الظلم والظلام ونحصد الحروب الأهلية. يذهب المستبد فيتطاير لحم الخريطة. لا يمكن اختصار الاستبداد برجل أو حفنة. الاستبداد مقيم في كتبنا وثيابنا وسراديب أدمغتنا. لن نخرج من مستنقعات الوحل والدم من دون قبول الآخر المختلف. والمسافة تبدو بعيدة (…) ولا يفوتني الاعتذار من الليبيين. توهمنا أن غياب «الأخ العقيد قائد الثورة» سيدفعهم إلى تعويض ما فات وضاع. لم نتوقع أن تكون وطأة الميليشيات أشد هولاً من وطأة جلاوزته. لم نتخيل أن يخلع شعب طاغية ليقع تحت نير الجيوش الصغيرة والضريرة. وأن تصبح ليبيا ملعباً للتدخلات وأكثر خطورة على نفسها وجيرانها. نعتذر من الذين بكر التراب في خطفهم. ومن الذين يلتفون بخيباتهم. ومن الواقفين في الصفوف الطويلة أمام السفارات. ومن الذين سيولدون قريباً في هذا الجزء المنكوب من العالم. لن نورثهم غير المدن المعتمة وجامعات الظلام. تمطر فشلاً فوق الخرائط المتداعية. تمطر فشلاً بين ضلوع المقالات (…) عن الحياة (مقاطع)