عندما تقول إن قطعة من مصر الحقيقية ماتت، برحيل الدكتورة رضوى عاشور، فإنك لست بعيداً عن الحقيقة. رضوى عاشور تلخيص لجوهر مصر، العربية، الإنسانية، المتصالحة مع مكوناتها المجتمعية والطبقية. في النعي المنشور في صحيفة «الأهرام» للأديبة والمناضلة الكبيرة، يظهر اسم عائلتين، رفاعة والظواهري، ضمن قائمة عائلات أقارب المبدعة الكبيرة وأصهارها. «توفيت إلى رحمة الله الروائية والناقدة الكبيرة، الدكتورة رضوى عاشور، أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، كريمة المرحوم مصطفى عاشور والسيدة مي عبد الوهاب عزام وزوجة الشاعر مريد البرغوثي ووالدة الشاعر تميم البرغوثي و …..وبنت خالة السفير محمد رفاعة وإخوته والمهندس حسين الظواهري وإخوته». نعم، هو السفير محمد رفاعة الطهطاوي، المعتقل بلا تهمة حقيقية في سجون العسكر، اللهم إلا أنه قرر أن يحترم منصبه رئيساً لديوان رئيس الجمهورية المخطوف، الدكتور محمد مرسي.. هو السفير رفاعة الذي كان يشغل منصب مستشار شيخ الأزهر، حين قامت ثورة يناير، فقرر الاستقالة من أزهر ينتمي إلى السلطة الحاكمة، وينضم إلى جموع المتظاهرين في ميدان التحرير. كنت تراه وسط الشباب، كما ترى الراحلة العظيمة، رضوى عاشور، وزوجها الشاعر المعروف مريد البرغوثي يجوبان الميدان. رضوى عاشور ابنة خالة رفاعة الطهطاوي وأيمن الظواهري نعم.. وهذه هي كيمياء مصر الحقيقية، كيمياء التنوع والتعدد والتعايش بتحضر، وهي الكيمياء التي حفظت لمصر وحدة نسيجها الاجتماعي، بتباينات مكوناته. حياة رضوى تجسد أيضاً حالة مصر العربية، فزوجها ورفيق نضالها فلسطيني، عاش في مصر ولمصر، كما عاش في فلسطين ولها. انظر إلى مصر الآن، تجدها محكومة بسلطة عمياء تستوي عندها فلسطين بالكيان الصهيوني، تتعامل مع الفلسطيني القادم إليها باعتباره خطراً، فيما تبتسم في وجه قطعان السياح الصهاينة. وفي الداخل، ستجدها مصر أخرى، غارقة في عنصريتها، ومنشغلة بتأليب شعبها على بعض شعبها، يحرق حكامها ما بقي من وشائج بين مكونات المجتمع، كي ينعموا بالسلطة. ولعلك تابعت زلزال التسريبات الخاصة بعزل وخطف وتلفيق قضايا للرئيس، محمد مرسي، ورأيت كيف تتحكم عقيدة الاستباحة والاستحلال في نفوس الخاطفين، على نحو يجعلهم يسوقون الشعب كله بالعصا والميكروفون والشاشة، لكي يحارب بعضه بعضاً، ويظلم بعضه بعضاً، ويقتل بعضه بعضاً، لكي تعيش السلطة الحاكمة. ولقد كان من المفترض، نظرياً، أن يقف القضاء سداً دون تآكل مصر مجتمعياً وقيميا، باعتباره الحَكمُ بين المصريين، القضاء بكل أذرعه وأدواته، بما في ذلك النيابة العامة، غير أن واقع الحال يقول إن مصر ماضية إلى الانتحار، من دون أن يوقفها أحد. فحين يصدر النائب العام بياناً بشأن فضيحة التسريبات الخاصة بتلفيق وتزوير قضايا للرئيس المختطف، الدكتور محمد مرسي، كان من المأمول أن يتحلى هذا البيان بلغة فنية موضوعية واضحة ومحددة، غير أن ما طالعناه منسوبا إلى النائب العام، أمس، جاء أقرب إلى مقدمة برنامج «توك شو» ركيك، في واحدة من فضائيات الانقلاب. البيان استبق الأحداث بإصدار حكم جامع مانع، أو قرار بات بإدانة «الإخوان المسلمين» وتحميلهم المسؤولية عن هذه التسريبات المدوية، التي تجعلها أشبه بانفجار شديد في الأنبوب الرئيسي لمؤسسة الانقلاب. لم ينتظر النائب العام ليحقق ثم يخرج بنتيجة، ولم يتبع الإجراءات الفنية اللازمة في هذا المجال، كأن يحقق، أولاً، في صحة التسجيلات من عدمها، بل سارع إلى النفي والإدانة، ودليله الوحيد أن «الإخوان» جماعة إرهابية، وأن أسهل وأسرع طريق للتخلص من قضية هو إلصاقها بالإخوان. وهنا جوهر الموضوع: إن دولة بكامل أجهزتها صنعت من قطاع كبير من الشعب عدواً ومصدراً للشرور، ومشجباً لتعليق كل الخطايا والجرائم والكوارث والفضائح عليه، ويحزنك، هنا، أن القضاء الذي يفترض أن يكون ملاذاً وملجأ لكل ذي مظلمة، صار طرفاً وخصماً، وليس حكماً، وهنا مكمن الخطورة: أن يشعر الناس بأن السبيل الوحيد لأخذ الحقوق هو القوة، خصوصاً أن الانقلاب تأسس على قاعدة أن من بيده السلاح يستطيع الحصول على السلطة، غصباً أو خطفا. إن بيان النائب العام يتجاهل الكارثة الحقيقية، ويقفز فوق أسئلة إثبات صحة التسريب من عدمه، وكيف ومتى تسرب، ويلجأ إلى الوصفة الجاهزة: الإخوان وراء كل شاردة وواردة على ظهر الكوكب. عن «العربي الجديد»