الفساد في المغرب اليوم يأكل من طبقين رئيسين؛ الأول هو العقار والتعمير ورخصه واستثناءاته، وأراضي الدولة التي تفوت إلى هذا وليس ذاك، وبهذا الثمن وليس بذاك، والطبق الثاني هو الصفقات العمومية، حيث تشتغل الأصابع الذكية لإرساء الصفقات على شركات معينة دون أخرى، وهنا ابتكر الفساد وحزبه ومليشياته تقنيات كثيرة تلتف على النصوص القانونية، وتضرب مبدأ المنافسة الشريفة، وتجني المليارات من وراء الصفقات العمومية (الدولة هي أول مستثمر في المغرب، وتصل ميزانية الاستثمار العامة إلى أكثر من 180 مليار درهم سنويا، أي حوالي 20 مليار دولار، ولنا أن نتخيل حجم الأرباح لو أن كل صفقة جنى منها حزب الفساد ما بين 10 و20 في المائة فقط…). سنركز هنا على التعمير ونترك الصفقات إلى يوم آخر، والمناسبة هي الدراسة المهمة التي نشرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي قبل يومين بطلب من البرلمان، والتي انصبت حول التحقيق في ملف الاستثناءات التي تعطى في مجال التعمير خارج مخطط التهيئة، فماذا جاء في هذه الدراسة الصادرة عن مؤسسة دستورية؟ لقد وقف المجلس على عدد من القرارات التي منحت بموجبها الرخص الاستثنائية في مجال التعمير دون مراعاة للقانون، ما أدى إلى تحويل 900 هكتار، «كانت مخصصة أصلا لمنشآت ذات منفعة عامة (منها 420 هكتارا كانت مخصصة للمساحات الخضراء)، إلى عمارات ومبان فُوِّتت للخواص»، في حين أن القانون ينص على عدم منح استثناءات في المناطق المخصصة للمنفعة العامة. كما لاحظت الدراسة، التي أنجزت بطلب من مجلس النواب، أن «الاستثناءات تمنح لإنجاز مشاريع عقارية أكثر مما تمنح لإنجاز مشاريع صناعية أو سياحية، أو لإنجاز تجهيزات أساسية يحتاج إليها المواطنون، فقد شكل الاستثمار العقاري متوسط نسب تتراوح بين 51 و55 في المائة في مختلف الجهات المدروسة في الفترتين ما بين 2003/2009 و2010 /2013. أما الاستثناءات لصالح مشاريع التجهيزات فحددت في 24 في المائة، و11 في المائة للمشاريع الصناعية، و14 في المائة للمشاريع السياحية». 900 هكتار في 13 مدينة فقط في ظرف 10 سنوات.. لكم أن تتخيلوا قيمة هذه الأراضي التي أعطيت لشركات التعمير بمقتضى رخص استثنائية في الغالب. ما هي قصة هذه الرخص الاستثنائية التي تبيض ذهبا في حجر السلطة والمنتخبين وشركات العقار وسماسرة البناء؟ الرخصة الاستثنائية كانت، قبل حكومة التناوب 1998، عشوائية تعطيها وزارة الداخلية لمن تشاء، وعندما جاء محمد اليازغي إلى وزارة التعمير حاول أن ينظمها بأن جعل لها قانونا، ووضع الرخص الاستثنائية في يد لجنة مركزية برئاسة الكاتب العام للوزارة (محمد عامر آنذاك)، وكان الغرض من تنظيم la dérogation هو نزع أداة من أدوات التحكم من وزارة الداخلية، ولما خرج اليازغي من الوزارة جاءت حكومة جطو فجعلت الرخص الاستثنائية جهوية بدعوى أن المركزية تعطل البت في الملفات، وهنا وقع الانحراف، وصار الاستثناء هو القاعدة. الرخصة الاستثنائية التي وضعها المشرع من أجل المصلحة العامة ومن أجل جعل تصميم التهيئة مرنا ويلبي حاجيات السكان، ويستجيب للتطورات المتسارعة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.. أصبحت هذه الرخص مصدرا للثراء غير المشروع، ووسيلة لابتزاز المستثمر والمواطن على السواء. عوض أن نبني عمارة، مثلا، بستة طوابق في شارع رئيس كما يوصي بذلك تصميم التهيئة الصادر بمرسوم، يمكن للجنة خاصة، فيها الوالي أو العامل والمجلس المنتخب والوكالة الحضرية، أن تسمح ببناء فندق من عشرة طوابق لأنه سيوفر مناصب شغل، ولأنه سيسد حاجة قائمة، ولأنه يشجع السياحة التي تدخل في مخطط التنمية الوطنية… هنا تصبح الرخصة الاستثنائية لها ما يبررها وتخدم مصلحة عامة، وتشجع الاستثمار والتشغيل، لكن عندما يأتي عامل أو والٍ أو رئيس جماعة أو لوبي عقاري ويحولون مساحة خضراء مخصصة لحديقة عمومية، مثلا، إلى عمارات ومبانٍ سكنية في وسط المدينة، في الوقت الذي توجد فيه أراضٍ أخرى لهذا النوع من البناء، وفي الوقت الذي يحتاج فيه السكان إلى رئة خضراء وسط المباني الإسمنتية، فهذه عملية تسمى جريمة تعمير… أغلبية رخص التعمير الاستثنائية تعطى تحت الطاولة خارج القانون، وهذا معناه أن الذي يعطي هذه الرخص (المنتخبون وخاصة رؤساء الجماعات والمجالس البلدية والمكلفون بالتعمير في الولايات والعمالات والوكالة الحضرية…) لا يخرق القانون عن جهل، بل إنه يقبض مقابلا سخيا للتوقيع على رخصة بناء عمارة في أرض مخصصة لحديقة أو تشييد 10 طوابق في منطقة لا يسمح القانون فيها سوى بأربعة طوابق أو… دراسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي تقول إن 55 في المائة من الرخص الاستثنائية ما بين 2003 و2013 أعطيت لمشاريع عقارية وليست صناعية ولا سياحية ولا لمشاريع البنية التحتية، أي الطرق والقناطر والمدارس والمستشفيات ونحوها، وهذا معناه أن الرخص الاستثنائية في مجال التعمير استعملت من أجل المصلحة الخاصة لبعض المنتخبين ولبعض رجال السلطة… السؤال الآن: أين تذهب الأموال الكبيرة المتحصلة من جرائم التعمير؟ بعضها يذهب إلى جيوب المنتخبين والإدارة والسماسرة-، وبعضها يذهب إلى خزائن بعض الأحزاب التي تمول بهذا المال عمليات تزوير الانتخابات وصناعة خرائط سياسية بالمال الحرام القادم من جرائم التعمير، وبهذا يعاقَب المواطن مرتين؛ مرة بالاعتداء على مجاله العمراني، ومرة بالاعتداء على حقه في انتخاب من يراه صالحا لإدارة الشأن العام…