لم تعرف إمبراطورية «CDG»، في كل تاريخها الممتد إلى أكثر من نصف قرن، زلزالا كالذي تعيشه هذه الأيام، حيث تبحث الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ومفتشية وزارة المالية في أوراقها وملفاتها وحساباتها… الأمر يتجاوز مشروع «باديس» في الحسيمة واختلالات الذراع العقاري لصندوق «بلاس بتري». الأمر يتصل بنموذج للتدبير المالي والسياسي لأكبر مؤسسة اقتصادية ومالية في المملكة. وهو نموذج أقل ما يمكن نعته به أنه نموذج بعيد عن الحكامة الجيدة والتدبير العقلاني وقواعد الشفافية والمحاسبة… إن صندوق الإيداع والتدبير، الذي يتصرف في عشرات المليارات من الدراهم عبر 103 شركات وفروع تابعة للمجموعة، لم يكن، في أي يوم من الأيام، مجرد مؤسسة للادخار الوطني، وأداة من أدوات الدولة لدعم التنمية وتشجيع الاستثمار والنهوض بالبنية التحتية، ومسايرة الخطط والبرامج الحكومية عندما يعجز القطاع الخاص عن فعل ذلك. «CDG» كان بمثابة علبة مالية سوداء في يد المخزن الاقتصادي.. قراراتها الاستراتيجية لا تُتخذ في المجلس الإداري ولا في لجنة الاستثمار ولا في الطابق ال12، حيث يجلس الرئيس المدير العام في مكتب يطل على نهر أبي رقراق. صندوق الإيداع والتدبير كان ولايزال ذراعا لأطراف في الدولة تستعمل ملياراته القادم جلها من ودائع صناديق التقاعد، وفي مقدمتها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي «CNSS»، المجبر قانونا على وضع كل احتياطات العمال في خزينة الصندوق وبنسبة فائدة لا تتجاوز 3.4 %، في حين أن معدل الفائدة في السوق أعلى من ذلك… يكفي أن نعرف أن كل الوزراء الأولين، بمن فيهم رئيس الحكومة الحالي، لم يمتلكوا الجرأة ليضعوا أرجلهم في هذه المملكة المالية الضخمة، وحتى عندما أعطى الدستور الجديد رئيس الحكومة حق اقتراح اسم الرئيس المدير العام ل« «CDG فإن بنكيران لم يفكر حتى في تغيير أنس العلمي الذي عوض مصطفى الباكوري الذي سمح لنفسه، وهو الرئيس المدير العام للصندوق، بالذهاب إلى مقر حزب الأصالة والمعاصرة للاحتفاء بالفوز في انتخابات 2009، وما أدراك ما انتخابات 2009، كما سمح الباكوري لنفسه، وهو في منصب حساس «يغني ويفقر»، أن ينتمي إلى الذراع الإيديولوجي لحزب «البام»، حركة لكل الديمقراطيين في انحياز سياسي واضح لطرف ضد طرف. يكفي أن نعرف أن المجلس الأعلى للحسابات لم يسبق له أن بعث بقضاته إلى هذه الإمبراطورية للاطلاع على ما يجري فيها، وأن المجلس الأعلى لم يفكر في بعث قضاته إلى «CDG» السنة الماضية، ودون تكليف واضح على الإطلاق، إلا بعدما استدعى البرلمان، لأول مرة في التاريخ، أنس العلمي، إلى لجنة المالية، وجابهه بما تكتبه بعض الصحف عن صندوق العجب، ولو كان السادة البرلمانيون اعتمدوا على مكاتب دراسات وخبراء في قراءة الأرقام والحصيلة السنوية وأسلوب إدارة الصندوق، لتوصلوا إلى حقائق صادمة… لكن النخبة البرلمانية «على قد الحال»، والحكومة «على قد الحال»، والمعارضة «على قد الحال»، وجزءا كبيرا من الصحافة الفرانكفونية والاقتصادية لا يدخل إلى حقل الألغام هذا، وذلك لأن شركات «CDG» معلن كبير في هذه الصحافة، وليس من «الحكمة» إغضاب معلن كبير في عرف هؤلاء. إصلاح ال «CDG» جزء من إصلاح اختلالات الدولة العميقة في المغرب وجزء من دمقرطة القرار السياسي والاقتصادي على قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة، لقد خسر الصندوق المليارات من الدراهم في السنوات الماضية في مغامرات استثمارية مريبة ومشاريع بعيدة جدا عن فلسلفة الصندوق ومخططاته، والعجيب أن أحدا لم يدفع حساب هذه المليارات، سوى فقراء صناديق الاحتياط الاجتماعي والمقاولات الصغرى والمتوسطة التي لا تعرف عنوان بلاس بيتري ولا القنوات التي توصل إلى مكتب الرئيس المدير العام الذي يعقد شراكات مدرة بالذهب الوفير مع الحيتان الكبيرة فيما الصغار يختنقون في المياه الضحلة.