يقول المغاربة في مثلهم الدارج: «حتى عندما يذهب الزين تبقى حروفه»، هذا ما وقع في بريطانيا الأسبوع الماضي. الإمبراطورية التي كانت لا تغيب الشمس عن أطرافها خرجت من امتحان الانفصال سالمة بصعوبة كبيرة وذكاء أكبر. استطاعت حكومة ديفيد كامرون أن تحصل على نتيجة إيجابية من الاسكتلنديين بالبقاء ضمن العائلة البريطانية الواحدة، رغم الاختلافات والصراعات والحساسيات التاريخية والراهنة… كيف كسب السياسيون البريطانيون معركة الاستفتاء يوم الخميس الماضي حيث كانت عيون العالم تراقبهم؟ أولا: لم تخض الحكومة لوحدها معركة إقناع الاسكتلنديين بالبقاء ضمن العائلة الواحدة، بل حشدت كل الأحزاب البريطانية خلفها، بما فيها الحزب المعارض، حزب العمال بزعامة ميليباند، حتى إن رئيس الحكومة السابق المعارض حاليا للحكومة، غوردون براون، كان نجم معسكر «لا للاستقلال»، وكتبت الصحافة البريطانية عنه: «إنه ثاني رابح من نتيجة الاستفتاء بعد بريطانيا»، وهذا ذكاء سياسي كبير، حيث أظهرت النخبة السياسية في لندن للاسكتلنديين أن البريطانيين كلهم خلف ملكتهم على قلب رجل واحد في هذه القضية، وأن دعاة الانفصال إذا كانوا يراهنون على وجود حمائم وصقور في بريطانيا إزاء موضوع استقلال اسكتلندا، فإنهم واهمون.. هناك رأي واحد وموقف واحد وسياسة واحدة… ثانيا: بعد الحملة الإعلامية والسياسية الذكية والموحدة لإقناع الاسكتلنديين بضرورة البقاء ضمن مملكة التاج البريطاني، جاءت الوعود، أو قل جاء خطاب العقل والمصلحة. قال البريطانيون لإخوانهم الاسكتلنديين: تريدون صلاحيات أكثر للبرلمان والحكومة المحليين؟ «أوكي». تريدون إشرافا مباشرا على جباية الضرائب عندكم؟ «أوكي». تريدون صلاحية الاقتراض المباشر من المؤسسات المالية الأوروبية؟ «أوكي». تريدون دعما أكبر للتعليم والصحة من الحكومة المركزية في لندن؟ «أوكي». تريدون من المؤسسات والشركات والمقاولات البريطانية أن تفتح المزيد من فروعها في اسكتلندا وجزرها؟ «أوكي». تريدون تعديلات دستورية تثبت هذه المكاسب في بلاد لا توجد فيها دساتير مكتوبة بل أعراف وتقاليد؟ «أوكي». تريدون تمثيليات ثقافية خارج البلاد للثقافة والتاريخ والهوية الاسكتلندية؟ «أوكي»، ومن ميزانية الخارجية البريطانية، لا بأس، هذا من حقكم… ثالثا: جاء الدور على الملكة، حارسة التاج البريطاني، في بداية الحملة لإقناع الاسكتلنديين بشعار: «معا أفضل». لم تتدخل إليزابيث مباشرة، لكن الجميع كان يعرف أنها خلف الخطة الكبيرة لحماية ما تبقى من مجد الإمبراطورية وصورتها في العالم، لكن الملكة وبعد أن صوت 55 في المائة ضد الانفصال، وهي نسبة مرتفعة جداً، فاجأت دعاة الانفصال قبل غيرهم، حيث أصدرت رسالة رقيقة ومعبرة قالت فيها: «الآن، ونحن نمضي قدما، يجب أن نتذكر أنه بالرغم من مجموع الآراء التي جرى التعبير عنها، ورغم العواصف التي أحدثها الاستفتاء بين أفراد العائلة الواحدة، وهذه طبيعة تقاليدنا الديمقراطية، فإننا نشترك في حب قوي لاسكتلندا، وهذا الحب واحد من أشياء أخرى توحد البريطانيين». كان في مقدمة دعاة الانفصال رئيس وزراء الحكومة المحلية، أليكس سالموند، الذي لم يكن غبيا إلى درجة الدعوة إلى طلاق تام مع بريطانيا، ورغم أنه قادم من حزب قومي كان الانفصال جزءا من هويته السياسية منذ زمن، فإنه يعرف صعوبة قرار الانفصال، لهذا حاول تغليفه في قطن ناعم، حيث قال لأنصاره: «نحن لا ندعو إلى انفصال تام عن المملكة التي عشنا معها لقرون، نحن ندعو إلى حقنا في دولة مستقلة كباقي الأمم، ونحن لن نرسم حدودا مادية مع بريطانيا في حالة الاستقلال، ولن نعلن الطلاق مع الجنيه الاسترليني، ويمكننا أن نبقى تحت تاج الكومنولث البريطاني، وأن تبقى إليزابيث ملكتنا، وأن تظل الشركات والمقاولات البريطانية في اسكتلندا على حالها، وكذلك عبور البشر والبضائع والخدمات و… لكن الاستقلال ضروري». وعندما فشل في إقناع شعبه، أعلن سالموند استقالته واعتزاله السياسة. هكذا يفعل الكبار.. عندما ينهزمون، لا يرفعون السلاح ولا تنتقلون إلى إيقاد نار الفتنة… جرى الاستفتاء وشارك فيه أكثر من 85 ٪ (عدد سكان اسكتلندا 5,3 ملايين نسمة)، وخرجت النتيجة لصالح الوحدة بين الإنجليز والاسكتلنديين. قال المراقبون في تفسير هذه النتيجة إن الاسكتلنديين انتصروا للعقل على العاطفة، للحاضر على التاريخ، للاقتصاد على الهوية الدينية والثقافية… إنه تمرين ديمقراطي رائع يكشف أن الوحدة والحفاظ على كيان الدولة لا يتمان عن طريق القوة أو الحرب أو الإقصاء، بل بالذكاء والعقل والتسامح والقدرة على الإنصات للناس ولحقائق العصر ولضرورات المستقبل. ملاحظة لها صلة: هل تقدم لنا التجربة الاسكتلندية دروسا في الحفاظ على الصحراء والأقاليم الجنوبية بطرق أخرى ومنهجية أخرى وذكاء آخر وخطاب آخر؟ الجواب، بلا شك، نعم مع كل الفروق والاختلافات الموجودة بين هنا وهناك.