ما يجري في غزة هذه الأيام ليس فقط جرائم ضد الإنسانية ترتكب على مرأى ومسمع العالم الذي يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان والحق في الحياة والسلم الدولي. ما يجري هذه الأيام في غزة ليس فقط بربرية إسرائيلية مجردة من كل حس إنساني، تسعى إلى تركيع شعب يطلب الاستقلال ويرفض الاحتلال، ويأبى أن يتنازل عن حقوقه المشروعة لأن العرب أصفار على اليسار في السياسة الدولية وميزان القوى العالمي… ما يجري في غزة هو مهرجان كبير للتبرع بالدم الفلسطيني لجسد العالم العربي الذي ينزف منذ نصف قرن على الأقل، ولا يجد من ينقذه سوى الفلسطيني الذي يحمل هم أمة كلها فوق رأسه. إخوانكم الفلسطينيون، وبكل أريحية وكرم ونبل، يفتحون صدورهم لطائرات العدو الإسرائيلي ليظل هناك حق عربي وإسلامي ومسيحي في فلسطين والقدس لا تجرفه الجرافات الإسرائيلية، ولا تمحو ذاكرته العصابات الصهيونية. إسرائيل تقصف البيوت الفلسطينية منذ أربعة أيام بالطائرات الأمريكية f16. أمريكا التي تمنح ثلاثة مليارات دولار مساعدات مباشرة لإسرائيل بالإضافة إلى المساعدات غير المباشرة.. واشنطن التي تمول قتل الفلسطينيين بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين، لأنها لم تجد من يقول لها من الحكام العرب لا، ويتصرف مع مصالحها ونفطها وبنوكها وامتيازاتها وقواعدها العسكرية على هذا الأساس. دخل العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين مرحلة جديدةً من التصعيد، وصلت إلى حد شن عدوان شامل على قطاع غزة المحاصر منذ سنوات، بعد أن استغلت إسرائيل قتل ثلاثة من مستوطنيها في منطقة الخليل في الضفة الغربيةالمحتلة، لتحقيق أهداف سياسية دنيئة مثل ضرب حركات المقاومة في الضفة، وإجهاض حكومة الوفاق الفلسطيني، والتخلص من التزاماتها السياسية الدولية تجاه السلطة الفلسطينية، وإخفاء التعنت في المفاوضات التي تراوح مكانها منذ سنوات طويلة، وتكثيف الاستيطان خلف مظلة الحرب على الإرهاب. إن أيًّا من فصائل المقاومة الفلسطينية لم تُعلن، حتى الآن، تبنيها عملية قتل المستوطنين، لكن إسرائيل أصرَّت على تحميل مليون ونصف مليون غزاوي مسؤولية هذه العملية في أكبر عقاب جماعي لشعب أعزل. مصر صامتة إلى الآن، وما يجري في غزة يتماشى مع تصفية حسابات قديمة للنظام الجديد مع حماس، التي يرى أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، عدوه الأكبر في هذه المرحلة، أما العواصم العربية الأخرى فإنها تتفرج على نهر الدم المتدفق من غزة، وتصدر بلاغات منافقة لم يعد يلتفت إليها أحد، مادام لا يتبعها موقف ولا قرار ولا سياسة تقتص من القاتل الإسرائيلي الذي يتصرف بحرية كاملة، وفي جيبه حصانة من أمريكا وأوروبا أن أحدا لن يجره إلى المحكمة الجنائية الدولية لكي يساءل عن جرائمه ضد الإنسانية، وأن أحدا لن يشن عليه حربا، وأن مجلس الأمن خلق ليحمي هذا الكيان المغتصب مادام اليهود لهم صوت مسموع ونفوذ قوي في أمريكا وأوروبا. الآن يعرف المغفلون لماذا وقفت إسرائيل بكل قوتها ضد الربيع العربي، وكيف أقنعت أمريكا بضرورة وحيوية مشروع الانقلاب في مصر، لأن نهوض الشعوب العربية يهدد أمن إسرائيل الحيوي، ولأن ذهاب العربي إلى صناديق الاقتراع، وتحرره من الاستبداد معناه ميلاد رأي عام وحكومات شرعية وأنظمة تمثل شعوب المنطقة وتحترم مشاعر الناخبين، وتتصرف على ضوء ذلك في السياسة الداخلية والخارجية، وهذه الشعوب لا تقبل عدوان وجرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين، ولا تقبل التعايش مع الاحتلال والتطبيع معه، ولا تقبل التفريط في الحقوق المشروعة للعربي في أرضه وسمائه وهويته ومستقبله.