بعد الاطلاع على تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب المصادق عليه بتاريخ 30 يناير 2023، وبناء على استقراء المنظومة الدستورية والقانونية المتعلقة بعقلنة قواعد العمل البرلماني، وتبعا لفحوى قرارات القضاء الدستوري والدروس المستخلصة من رصد وتتتبع الإشكالات التي تثيرها الممارسة البرلمانية وما اقترن بها من احتجاجات وسجالات قانونية وسياسة، نقترح بسط ملاحظات نقدية بشأن التعديل المذكور لإغناء النقاش الموازي الذي سيظل مفتوحا ولو بعد صدور قرار المحكمة الدستورية لاحقا، مع الإشارة إلى أننا اخترنا منهجية تركيز هذه الملاحظات بإثارة أربعة قضايا إشكالية أساسية تخص سرية وعلنية اللجان الدائمة (أولا) والمهام الاستطلاعية (ثنايا) ونظام تناول الكلمة(ثالثا) وكذا الزمن الرقابي للجلسات (رابعا). أولا: بخصوص سرية وعلنية اللجان الدائمة وفيما يتعلق بالحالات التي تسمح برفع السرية بصفة خاصة، فإن تعديل النظام الداخلي قد أعاد النظر في تحديدها بموجب المادة 106 منه كما يلي: "1- دراسة موضوع طارئ وعاجل يقتضي إلقاء الضوء عليه؛ 2- التقديم والمناقشة العامة للنصوص التشريعية؛ 3- حالة دراسة موضوع رقابي يستأثر باهتمام الرأي العام الوطني". وحيث يتعذر الدفع بعدم دستورية حصر المجلس إمكانية القيام بمناقشة علنية للنصوص القانونية في مرحلتي تقديمها ومناقشتها العامة واستبعاد هذه الإمكانية في مرحلتي مناقشتها التفصيلية والتصويت عليها، نظرا لحجية سمو القاعدة الدستورية الأصلية لسرية اللجان الدائمة، انسجاما مع أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 68 من الدستور، فإنه من الملائم إثارة تسجيل تراجع ونكوص بين عن مكتسب توسع النظام الداخلي الحالي في الحالات التي يمكن بمناسبتها رفع السرية عن مناقشة النصوص التشريعية، حيث تسمح الحالة الثانية المذكورة بموجب المادة 96 من النظام الداخلي الحالي بمناقشة "نص تشريعي يهم شريحة واسعة من المواطنين والملزمين"، بصيغة مجردة ضامنة لإمكانية اعتماد العلنية في مختلف المراحل، بما فيها مرحلة المناقشة التفصيلية لجميع المواد أو لبعضها، وذلك خلافا لماورد في الصيغة التعديلية التي ألغيت بموجبها بصفة نهائية أية إمكانية لفتح مجال التتبع والمواكبة العلنية للمرحلة المذكورة. ودون أن ننسى كذلك إجهاض محاولة تثمين العرف البرلماني النوعي الذي ميز انفتاح اللجان خلال الفترة الحرجة من انتشار كورنا أو خلال سوابق المناقشات العلنية العامة والتفصيلية لمشروع قانون المالية والميزانيات الفرعية وغالبية النصوص التشريعية التي تستأثر باهتمام الصحافة والرأي العام. ولئن كان يفترض في ظل هذه الولاية التشريعية تحقق انفتاح أكبر للجان الدائمة بما يتيحه ذلك من مواكبة إعلامية وإثراء للنقاش العمومي وتفاعل مواكب للمجهود البرلماني والحكومي بتثمينه وانتقاده، فإن واقع الحال يعكس هيمنة توجس كبير من انفتاح اللجان وتقليص مجال انعقادها بصفة علنية مما ضيق مجال الاطلاع على يجري فيها. ثانيا: بخصوص المهام الاستطلاعية استهدف التعديل تعزيز عقلنة الإقبال البرلماني المتزايد على هذه الآلية، حيث نصت الفقرة الأخيرة من المادة 117 على أنه" لا يمكن للجنة دائمة أن تنظم أكثر من مهمتين استطلاعيتين في آن واحد إلى حين انتهاء إحدى المهمتين أو كلتيهما من أشغالها وتقديم تقاريرها ولا يمكن برمجة مهمتين استطلاعيتين في نفس الموضوع برسم ولاية تشريعية واحدة". كما يرمي التعديل إلى التحصين من الأثر الرقابي والسياسي لبعض المهام الاستطلاعية المحرجة في بعض الأحيان، كما ثبت ذلك، على سبيل المثال، في نازلة مهمة استطلاعية أنجزت سابقا حول أسعار المحروقات، ويتضح ذلك بإضافة عبارة احترازية وردت في المادة المذكورة تنص على كون " المهام الاستطلاعية إخبارية بطبيعتها"، فضلا عن تخصيص مادة جديدة تنص على أنه " لا يمكن أن تمتد وظيفة المهام الاستطلاعية إلى مهام لجان تقصي الحقائق المؤطرة بموجب الفصل 67 من الدستور" (المادة 120). ومن جهة أخرى يتعين الإشارة إلى وجود تفاوت كبير بين عدد المهام الاستطلاعية التي تم إنجازها في قضايا متنوعة وعدد المهام الاستطلاعية التي تم اطلاع الرأي العام على مضامين وخلاصات بشأنها، إذ تمت مناقشة تقارير أربعة مهام في الولاية السابقة شملت أسعار المحروقات وقنصليات المملكة ووضعية السجون ومراكز تحاقن الدم، بيد أن ثمانية مهام استطلاعية أنجزت ولم تناقش تقاريرها في الجلسة العامة، ومنها ما تعلق والملاعب المعشوشبة وحلبات ألعاب القوى ووكالة المغرب العربي للأنباء .كما أن عشرة مهام استطلاعية ظلت قيد الإنجاز ولم تتم مناقشة تقاريرها ولو من لدن اللجان الدائمة المعنية، ومنها ما تعلق بمقالع الرمال ووكالة إنعاش التشغيل ومؤسسات الرعاية الاجتماعية وظروف نزلائها. ونستنتج مما سبق استمرارية إشكالية القصور في التقييد الزمني المتعلق بآجل إنجاز المهام الاستطلاعية، فضلا عن العراقيل التي تحول دون تحقق نجاعتها وسلاسة إتمامها وإحالة تقاريرها ومناقشتها بالجلسات واطلاع الرأي العام عليها. ثالثا: بخصوص نظام تناول الكلمة واستهدف التعديل معالجة تضارب المواقف بشأن منع الحكومة من تناول الكلمة أو توظيف هذه التقنية لتمرير مواقف احتجاجية أو مبررة لتوجه الحكومة أو مكتب المجلس، حيث أضيفت فقرة تنص في المادة 198 على أنه:" لا يسمح لغير رئيس الجلسة بمقاطعة المتكلم أو إبداء أية ملاحظة له". وحمل التعديل كذلك محاولة تدقيق المقصود بتناول الكلمة في إطار نقطة نظام باعتماد قاعدة مرجحة لتخصيصه "بما يتعلق بالتنفيذ السليم لجدول أعمال الجلسة العامة والمساطر المعتمدة فيها" بموجب المادة 169. كما استبعد بشكل صريح تصريف تناول الكلمة للتعقيب، بمقتضى جديد نص على أنه:" لا يمكن أن تكون نقطة نظام موضع تعقيب على مداخلة عضو آخر من المجلس"، ومن جهرة أخرى، تضمن التعديل تأكيدا صريحا وواضحا على إمكانية تخويل الحكومة الحق في تناول الكلمة بموجب الفقرة المحدثة التي تنص على أنه "يمكن لرئيس الجلسة أن يمنح الكلمة للحكومة في حال ما إذا كانت نقطة نظام تهم العلاقة بيان الحكومة والمجلس". لكن، حيث يتعين تقدير اهتداء مجلس النواب لمحاولة تجاوز التوظيف السياسوي لهذه الألية التقنية الذي أنتج هدرا للزمن البرلماني وتراشقا كلاميا في فضاء دستوري، فإنه يتعين ملاحظة بتكريس "عمومية وشمولية" دلالة تناول الكلمة في "إثارة الانتباه لسير الجلسة ولمقتضيات النظام الداخلي" دون حسم تام ونهائي في ترجيح الاقتصار فقط على ما يهم من ذلك كله شأن "التنفيذ السليم لجدول أعمال الجلسة العامة والمساطر المعتمدة فيها". كما أن التوسع في إمكانية توظيف "نافذة مقتضيات النظام الداخلي" يثير منطق احتمال توسع تناول الكلمة في إثارة أي شيء، لاسيما أن الحسم في نوازل مختلف النقط يخضع السلطة التقديرية لرئاسة الجلسة العامة تبعا لتغير تقديرها الشخصي والسياسي. وعليه، فقد يكون من الملائم انتظار فرصة تجريبية أخرى لتبين ضرورة تدقيق أكثر لمفهوم تناول الكلمة بما يهم "مقتضيات وضوابط النظام الداخلي الخاصة بالسير العادي للجلسة وجدول أعمالها " على وجه التحديد الاحتياط من باب التأويلات لكون التعديل الحالي لن يمنع استمرارها في كل الأحوال. ومن جهة ثانية، يسجل اقتصار حصر منع ظاهرة التعقيب في العلاقة بين النواب المتكلمين، مما لا يسعف بالمقتضى الجديد في منعها في العلاقة بين النواب والحكومة. ولئن كان التعديل الجديد من جهة أخرى ورد منصفا من زاوية رفع الحصار عن نقط نظام حكومية، بما يعد جبرا برلمانيا صريحا لما كان " إخلالا عرفيا وعمليا بالمبادئ الدستورية والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية"، فإنه يثير من زاوية انتقادية أخرى بعدا اطلاقيا آخر من شأنه توسيع جدل تناول الكلمة لأنه نص على 'نقط نظام تخص العلاقة بين المجلس والحكومة"، والحال أن المنطق القانوني الموضوعي والتوازن الدستوري يستوجبان الاقتصار على شمولية المضمون الوارد في الفقرة الأولى من المادة المعدلة، باعتباره كفيل بحصر نقط نظام الحكومة بدورها فيما يحقق 'السير العادي لجدول أعمال الجلسة ومقتضيات النظام الداخلي المتعلقة بها"، علما أن جوانب العلاقة بين المجلس والحكومة تكتسي بعدا دستوريا أسمى من بعدها التقني. كما نثير خلو التعديل الجديد مما يثبت انتفاء الحق في التعقيب الحكومي أو التعقيب البرلماني على الحكومة مقابل التنصيص الواضح على منع التعقيب البرلماني البرلماني فقط. أما بشأن تناول الكلمة للتحدث في موضوع عام وطارئ في نهاية الجلسة الأسبوعية لما يستلزمه إلقاء الضوء عليه وتنوير الرأي العام بشأنه، فإنه يسجل خلو التعديل مما يعالج العوائق المتعددة المقترنة بتفعيل هذه الآلية ، لا سيما من جهة سبق ثبوت حالات الإخلال البين بمبدإ التوازن والاتفاق المسبق مع الحكومة لبرمجة التحدث في موضوع عام وطارئ، وذلك باعتماد تأويل ضيق للفقرة الأخيرة من المادة 152 من النظام الداخلي التي تنص على أنه: "في حالة تعذر برمجة طلبات التحدث في موضوع عام وطارئ في الأسبوع الأول من الطلب تبرمج هذه الأخيرة في الأسبوع الموالي" مما أنتج معه تجاوز لقاعدة الاتفاق المسبق مع الحكومة على ذلك. علما أنه لا توجد ضمانة قانونية وسياسية لإمكانية تكرار التجاوز المذكور. ولئن كان المكتب الحالي للمجلس قد أعدم ترجيح العمل بالتأويل السابق في تدبير برمجة طلبات التحدث، فإنه من جهة زاوية أخرى اختلق واقع نظام تصفيته لهذه الطلبات قبل إحالتها على الحكومة دون ستد قانوني حاسم في ذلك، بما يؤول إلى احتمالات التدبير الانتقائي والسياسي في تفعيل الطلبات، لاسيما أنه يتعذر إغفال تكرار احتجاج المعارضة على تصفية مبادرتها لإثارة مواضيع حيوية ومستعجلة تهم المواطنات والمواطنين. ومن جهة أخرى وفيما يخص تناول الكلمة لتفسير التصويت ، يسجل محافظة التعديل على المقتضى الوارد في النظام الداخلي الحالي، مع تعديل شكلي في صياغته، حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 171 على أنه:" يمكن للرئيس أن يأذن في شرح موجب التصويت لمن طلبه من النواب لمدة لا تتعدى خمس دقائق، مع مراعاة ما تم الاتفاق عليه داخل ندوة الرؤساء بشأن البرمجة الزمنية للمناقشة ". لكن تواتر حصر تناول الكلمة بعد التصويت في تقديم تفسيرات الفرق والمجموعات النيابية، رغم أنه لا يمكن إغفال كون مضمون هذه التفسيرات في حد ذاتها يكتسي بعدا من أبعاد المناقشة وزاوية ناجعة لتصريف نقد رقابي إيجابي أو سلبي، لم يواكبه إقرار حق صريح أو ضمني لإمكانية التفاعل الحكومي، مما يعد من وجهة نظرنا إخلالا بمبادئ التوازن الدستوري وتكافؤ فرص إبداء الرأي، لم يوفق المجلس في الانتباه لمعالجته ولا تملك الحكومة موضوعيا معه إلا حق الاستدراك بإثارته في حالة اقتراح مذكرتها الجوابية على المحكمة الدستورية. رابعا: بخصوص الزمن الرقابي للجلسات الأسبوعية والشهرية يتضمن التعديل الجديد زيادة نصف ساعة للغلاف الزمني الأقصى المخصص للجلسة الأسبوعية المخصصة للأسئلة الشفهية المحدد في ثلاث ساعات، لتصل بذلك المدة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها هذه الجلسة ثلاث ساعات ونصف دون احتساب زمن نقط نظام وتناول الكلمة وزمن التوقفات التي تقع من حين لآخر. ومن جهة أخرى فقد غض التعديل الطرف عن اعتماد نفس الوعاء الزمني المخصص للجلسة الشهرية المخصصة للأسئلة المتعلقة بالسياسة العمومية التي يجيب عنها رئيس الحكومة والمحدد في زمن أقصاه ثلاث ساعات لذلك يتضح تلكؤ في عقلنة الزمن الرقابي المخصص لجلسات الأسئلة، بما يثير الإقرار بصعوبة تجاوز الرتابة التي تثيرها المدد الطويلة التي تستغرقها وصعوبة مواكبة أشغالها، لاسيما إذا استحضرنا إثارة فتور الشحنة السياسية التي من المفترض أن تكون سمة غالبة في طبيعة النقاش البرلماني العمومي. وحيث إن حجية الكلمة الفصل في مقاربة القضايا الجوهرية والشكلية المشمولة بالتعديل ستظل، مع كل الأحوال، شأنا خاصا بالمحكمة الدستورية التي أناط بها الدستور مراقبة دستورية الأنظمة الداخلية وتعديلاتها قبل العمل بها، فإن تفاعلات الممارسة البرلمانية المقبلة هي الكفيلة لوحدها بتبيان نجاعة أية مقاربة تعديلية في معالجة قصور الأداء البرلماني وتثمين إشراقاته التراكمية التي يصعب نكرانها وبالإجمال، فإن العبرة الأصلية في نهاية المطاف تكمن في جودة الإنتاج التشريعي والرقابي المثمر وتحسين صورة مؤسسة دستورية ومبادرتها الفعلية والفاعلة للتفاعل الإيجابي مع الانشغالات والقضايا الحرجة التي تؤرق المواطنات والموطنين.