منذ شهر يناير 2022 لم يعد بالإمكان تتبع اللجان البرلمانية الدائمة عبر الموقع الإلكتروني للبرلمان وصفحته الخاصة بالتواصل الاجتماعي، وتبعا لذلك سيظل أثر كورونا محفوظا في الذاكرة البرلمانية، بأرشيف زمن انفتاح تلك اللجان وما واكبه من تفاعل إعلامي وعمومي مباشر. ومن خلال الوقوف على مبادرة مكتب مجلس النواب، كما هي مثبتة برسالة السيد رئيس المجلس حول" تعذر الاستجابة لطلب التغطية الإعلامية لاجتماع لجنة القطاعات الاجتماعية" وتصريحه لوكالة المغرب العربي للأنباء بتاريخ 19 أبريل 2022، يتبين أن منع رفع السرية ووقف التتبع المباشر للجان استند على ثلاث حجج مرجعية أساسية وهي: 1- أحكام الفصل 68 من الدستور، ولا سيما الفقرة الثالثة منه، والتي تنص على أن جلسات لجان البرلمان سرية، ويحدد النظام الداخلي لمجلسي البرلمان الحالات والضوابط التي يمكن أن تنعقد فيها اللجان بصفة علنية؛ 2- مقتضيات النظام الداخلي ذات الصلة؛ 3- اجتهاد القضاء الدستوري المختص في الموضوع. كما اقترن تبرير مبادرة مكتب المجلس بسبب تأثير علنية اللجان على جودة الإنتاج التشريعي، باعتبار أنه: "لما تكون الكاميرا مشغلة، البرلماني يفكر في الناخبين..."، فضلا عن تحديد موقف برلماني وسياسي يجعل "التشريع ومناقشة القوانين شأنا سريا"، مع تأكيد "استبعاد البث المباشر لأشغال اللجان على الأنترنيت، خصوصا موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، ولو انعقدت بشكل علني ومفتوح في وجه الصحفيين"، لأنه لا ينبغي "تحويل البرلمان إلى روتيني اليومي". وفي إطار التفاعل العلمي وإغناء النقاش الدستوري والبرلماني حول إشكالية النازلة، سنحاول الإسهام بوجهة نظر أخرى، في ضوء قراءة موضوعية، تزاوج بين ما ورد في الدستور (أولا) وكرسه النظام الداخلي (ثانيا) وأقره القضاء الدستوري (ثالثا) من جهة، وبين تجربة اللجان الدائمة في مواجهة "أثر كورونا" وما قبلها (رابعا)، حيث يتعذر الدفع بأنها غير دستورية وغير منسجمة مع الانفتاح الديمقراطي والبرلماني من جهة ثانية، وبما لا يحجب الاعتراف بكون السرية هي المرجع الدستوري الاحتياطي، لتحصين التداول المتعلق بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة. أولا: سرية وعلنية اللجان البرلمانية الدائمة في الأحكام الدستورية إن فحص إشكالية السرية والعلنية يستوجب إبراز التطور الدستوري المتعلق بها، حيث اكتفى أول دستور للمملكة سنة 1962 بالتنصيص على أن: "جلسات المجلسين عمومية، وينشر محضر المناقشات برمته بالجريدة الرسمية"، وأنه يمكن "لكل مجلس أن يعقد اجتماعات سرية بطلب من الوزير الأول أو بطلب من عشر أعضائه" (الفصل 42). بيد أنه لم يتضمن أحكام صريحة حول طبيعة اجتماعات اللجان، مما دفع الغرفة الدستورية إلى منع أية محاولة لانفتاحها، فصرحت في مراقبتها لدستورية النظام الداخلي لمجلس النواب سنة 1963 أن: "الدستور عندما قرر صراحة علانية جلسات البرلمان فقط، يكون قد قرر ضمنيا سرية جلسات اللجان" واعتبرت "مناقشات اللجان تكتسي دائما الصبغة السرية بحكم طبيعتها" (مقرر الغرفة الدستورية رقم 1 بتاريخ 31 دجنبر 1963). ومن جهة أخرى لم يتحقق أي تغيير في مضمون الأحكام الدستورية المتعلقة بسرية اللجان في ظل دساتير1970 و1972 و1992 و1996، وتواتر استبعاد القضاء الدستوري لعلنية اجتماعاتها (على سبيل المثال قراري المجلس الدستوري رقم 52/95 و82/1995). أما دستور 2011 فكرس مقاربة مختلفة عن المرحلة الدستورية السابقة بتنصيصه الصريح، لأول مرة، على ازدواجية طبيعة عمل اللجان الدائمة. وعليه لم يعد مجديا التصريح بسريتها الدائمة أو الدفع بذلك لمنع إمكانية انفتاحها. وبالرجوع إلى الفصل 68 من الدستور يتبين أن سرية اللجان المذكورة في فحوى فقرته الثالثة، لا تعد تقييدا مطلقا لتدبير أشغالها أو معيقا لانفتاحها بما يعزز حق تتبع وتقييم أداء وموقف المنتخبين، فضلا عن كون البرلمان له سلطة وضع الضوابط المقترنة بذلك، مع مسؤوليته في تفعيل أو عرقلة حق طلب رفع السرية المخول من لدنه للمعنيين به. وفي هذا السياق، تنص أحكام الفصل المذكور على أن: "النظام الداخلي لمجلسي البرلمان يحدد الحالات والضوابط التي يمكن أن تنعقد فيها اللجان بصفة علنية"، بما يعني بمنطق دستوري آخر استبعاد قاعدة السرية الدائمة للجان. وحيث إن مضمون الفصل السابق ذكره لا ينص على حالات حصرية لاجتماعات اللجان بصفة علنية، فإن ذلك يؤول بالدرجة الأولى إلى ميزان التقدير البرلماني لمستويات الانفتاح والانغلاق في دراسة قضايا الشأن العام. وإذا كانت ضوابط الانعقاد السري للجلسات العامة قد وردت بموجب أحكام الفقرة الثانية من الفصل 68 مقيدة بحالتين فقط، بناء على طلب "رئيس الحكومة" أو "ثلث أعضاء المجلس المعني"، فإن ضوابط الانعقاد العلني للجان الدائمة مستبعدة من نطاق أحكام الدستور الذي أوكل للنظام الداخلي أمر تحديدها، وهذا في حد ذاته سندا دستوريا كافيا لتعزيز الاجتهاد البرلماني المنفتح. ثانيا: حالات وضوابط علنية اللجان البرلمانية الدائمة في النظام الداخلي يتبين جليا من خلال النظام الداخلي الذي استند عليه مكتب مجلس النواب لمنع رفع السرية والتتبع المباشر للجان الدائمة، ما يفيد بعكس اجتهاده تماما، حيث يتضمن التحديد القانوني والتنظيمي الذي يمكن بفضله مواصلة الانفتاح بصفة علنية وآمنة. فمن زاوية تحديد الحالات التي تسمح برفع السرية فإن مقتضياته واضحة ببسطها كما يلي: 1- حالة دراسة موضوع طارئ وعاجل يقتضي إلقاء الضوء عليه؛ 2- حالة دراسة نص تشريعي يهم شريحة واسعة من المواطنين والملزمين؛ 3- حالة دراسة موضوع رقابي يستأثر باهتمام الرأي العام الوطني (المادة 96). وفي هذا الصدد، فمن الملائم تقدير وتثمين توسع النظام الداخلي في تحديد تلك الحالات، إلى درجة يمكن بكل موضوعية الإقرار باعتبار الشأن التشريعي والرقابي للجان الدائمة مشمولا عموما بحق تفعيل التداول العلني بشأنه. وإذا علمنا أن النصوص التشريعية في مجملها بمثابة قواعد اجتماعية عامة ومجردة وتهم دراستها في غالب الأحيان مشاريع قوانين تداولت الحكومة في شأنها وأصدرت بلاغات تشمل مضامينها، فإن انفتاح اللجان في مناقشتها لا يعد انزلاقا عن أحكام الدستور، لا سيما في المرحلة الأولى المخصصة لتقديمها من لدن الوزراء ومناقشتها مناقشة عامة بتدخلات رسمية لممثلي الفرق والمجموعات البرلمانية، مع إسناد النظر للجان لاعتماد مناقشة تفصيلية سرية للمواد والتعديلات والتصويت عليها خارج نطاق البث المباشر لأشغالها، نظرا لخصوصية البعد التحضيري التقني والتفصيلي المقترن بهذه المرحلة. وحيث إن الشأن الرقابي للجان الدائمة يتعلق بالأساس بطلبات تقديم عروض من لدن الوزراء حول قضايا راهنة، وأحيانا لتعميق مناقشة مواضيع لا يسمح الحيز الزمني لجلسات الأسئلة الأسبوعية التفصيل فيها. ونظرا لامتلاك الحكومة سلطة تقديرية للتفاعل مع الطلبات الموجهة لها في هذا الشأن، حيث نلاحظ أن نسبة الاستجابة الحكومية لطلبات عقد اجتماعات اللجان لدراسة مواضيع راهنة لم تبلغ 50 % خلال الولاية التشريعية السابقة، إذ اكتفت باستجابتها ل (424) طلبا من أصل (934)، مع تسجيل تفاوت بين الوزراء في تفاعلهم مع اللجان الدائمة. مما يجعل انعقاد اجتماعات علنية ومباشرة لتقديم ومناقشة عروض حول قضايا راهنة لا تتعلق بالأمن الداخلي أو الخارجي أمرا موضوعيا ومنسجما مع أحكام الدستور ومقتضيات النظام الداخلي. وعلاقة بانفتاح المجال الرقابي للجان الدائمة وباستثناء تقارير لجنة مراقبة المالية العامة وبعض المهام الاستطلاعية التي تمت مناقشة تقاريرها في جلسات عمومية للمجلس ونشرت لاطلاع العموم عليها تبعا لذلك، يسجل غياب تقارير مناقشة عروض حول القضايا الراهنة حتى في الحالات التي انعقدت اللجان فيها بصفة علنية، لذلك نثير أهمية تفعيل إعداد التقارير ونشرها بالموقع الإلكتروني للبرلمان لكشف المجهود المبذول في هذا المجال وتثمينه. أما في ما يتعلق بتحديد ضوابط عقد اجتماعات علنية للجان الدائمة فقد خول النظام الداخلي الحق في تقديم طلب ذلك لأربع جهات، وهي: رئيس المجلس، الحكومة، مكتب اللجنة البرلمانية المعنية، وثلث أعضاء اللجنة البرلمانية المعنية. وهنا نثير اقتراح تخويل نفس الحق المذكور لرؤساء الفرق والمجموعات، قياسا على حجية اجتهاد القضاء الدستوري الذي صرح باعتبار التنصيص على أنه: "يمكن لرئيسي فريقين على الأقل أن يتقدما بطلب كتابي معلل قصد تقديم أي اجتماع للجان أو تأجيله أو إلغائه، ليس فيه ما يخالف الدستور، على أن يعود القرار بهذا الشأن إلى مكتب اللجنة المعنية" (قرار المحكمة الدستورية رقم 938/2014). كما وضع النظام الداخلي مقتضيات لضمان نجاعة العلنية، حيث ألزم رئيس اللجنة بضبط الحضور واتخاذ ما يلزم لحفظ النظام خلال انعقادها (المادة 83 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمادة 116 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين). ومن جهة أخرى فإن استقلالية البرلمان في تدبير شؤونه لا تعدم علاقة الحكومة بالترجيح بين السرية والعلنية، فلا مبرر دستوري وقانوني أو موضوعي لانحيازها في الاتجاه المحايد من مسؤولية الانفتاح أو الانغلاق، بدليل أحقيتها في تقديم طلبات رفع السرية بموجب النظام الداخلي، مع مراعاة أسبقية تصريح للقضاء الدستوري بأن: "الاستجابة لطلبات الحكومة الرامية إلى عقد اجتماعات اللجان غير معلقة على سلطة تقديرية للبرلمان أو نتيجة استشارة لجهة من جهاته، نظرا لأن عمل اللجان مستمر طبقا لأحكام الدستور، كما أن دعوتها للانعقاد مجرد تدبير إجرائي لا غير" (قرار المجلس الدستوري رقم 52/95). ثالثا: قرارات القضاء الدستوري الأخيرة تعزز انفتاح اللجان البرلمانية الدائمة بالرجوع إلى حجية اجتهاد القضاء الدستوري في ظل الدستور الحالي، يمكن الاسترشاد بمقاربة إيجابية لما ورد في حيثيات وفحوى قراراته، حيث اعتبر بمناسبة مراقبته لدستورية النظام الداخلي لمجلس النواب سنة 2012 التنصيص على أن: "تقارير موجزة تُنجز حول المواضيع التي تُدرس داخل اللجان وتُنشر في النشرة الداخلية والموقع الإلكتروني للمجلس ليس فيه ما يخالف الدستور، مع مراعاة عدم التنافي مع الصبغة السرية الواجبة كأصل لاجتماعات تلك اللجان، طبقا للفقرة الثالثة من الفصل 68 من الدستور" (قرار المجلس الدستوري رقم قرار 12/829). وحيث صرح في إطار مراقبته لدستورية النظام الداخلي لمجلس النواب سنة 2013 بأن التنصيص على "تخصيص حيز زمني للنقل التلفزي المباشر لوقائع اجتماعات اللجان الدائمة ليس فيه ما يخالف الدستور، طالما كان ذلك مقتصرا على الحالات التي تعقد فيها اللجان اجتماعاتها بصفة علنية، وفق الضوابط المحددة في النظام الداخلي للمجلس"، وبأن وضع "مقتضيات تتعلق بمحتويات التقارير المنجزة بشأن المواضيع التي تدرس داخل اللجان ونشرها، ليس فيه ما يخالف الدستور، مع مراعاة عدم الإخلال بالصبغة السرية الواجبة كأصل عام لاجتماعات تلك اللجان، طبقا للفقرة الثالثة من الفصل 68 من الدستور"، كما أن: "إدراج المداخلات في اللجان الدائمة والتقارير ضمن محتويات الموقع الإلكتروني الذي يتعين على كل نائب إنشاؤه، ليس فيه ما يخالف الدستور، شريطة عدم الإخلال بمبدأ سرية أشغال اللجان المقرر كأصل عام بمقتضى الفقرة الثالثة من الفصل 68 من الدستور، وعدم نسبة التقارير التي تصدر باسم اللجنة إلى نائب بعينه" (قرار المجلس الدستوري رقم 924/2013). كما صرح بموجب نفس القرار بأن: "إغفال تحديد الحالات التي يمكن أن تنعقد فيها اجتماعات علنية للجان الدائمة غير مطابق لأحكام الدستور". رابعا: سند أسبقية تفعيل علنية اللجان البرلمانية الدائمة ومن جهة أخرى، لا يمكن في نازلة الحال استبعاد تجربة اجتماعات عقدت بصفة علنية منفتحة وأتاحت لعموم المهتمين تتبعها المباشر، لا سيما منذ إعلان حالة الطوارئ الصحية، بل إن الممارسة البرلمانية قبل ذلك شاهدة على الانفتاح الإيجابي خاصة خلال مناقشة مشاريع قوانين المالية والميزانيات الفرعية وغالبية القوانين، وكذا بمناسبة تقديم عروض استأثرت باهتمام الرأي العام ولم تمس بالأمن الداخلي والخارجي للبلاد. وعليه يتعين تثمين العمل البرلماني التراكمي وسعيه الحثيث لتعزيز الانفتاح، فلا ينسجم الانغلاق بعد ممارسة رفع السرية مع هدف النجاعة البرلمانية وتقوية الثقة في "المؤسسة البرلمانية" والمجهود المضني للجانها التي تعد في واقعها بمثابة "برلمانات حقيقية مصغرة". وسيظل حسم الجدل الدستوري والقانوني بشأن توسيع أو تضييق نطاق الاجتماعات العلنية للجان الدائمة في الواقع العملي والتدبيري خارج نظر القضاء الدستوري، الذي يتعذر عليه البت في إشكالات تطبيق مقتضيات النظام الداخلي خارج ما هو محدد بموجب القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية. كما أن ضرورة ترسيخ الحكامة والشفافية البرلمانية وتجويد الممارسة البرلمانية تستلزم متابعة المسار الإيجابي المنفتح للجان الدائمة، باعتبارها أهم الأجهزة البرلمانية الفعالة التي يتعين تثمين مجهوداتها وإبراز جدواها وقيمتها المضافة في احتضان ومأسسة النقاش العمومي لمعالجة القضايا التي تشغل الرأي العام ببلادنا. لقد آن الأوان لتجاوز التردد الحاصل بين السرية والعلنية وكل ما من شأنه إجهاض مكتسب التتبع العلني المباشر لأشغال عادية للجان وانفتاحها في نطاق أحكام الدستور والمصلحة العامة، لا سيما إذا علمنا أن تجليات "العقلنة البرلمانية" وصعوبة انفلات تدبير تلك اللجان من السلطة الفعلية للأغلبية البرلمانية تحول دون إحكام رقابة مشددة على الحكومة، ولن تؤدي في كل الأحوال إلى إثارة مسؤوليتها السياسية. وإجمالا، وتبعا لكل ما سبق بيانه فإن بلادنا قد لا تحتاج بالضرورة لأي تعديل دستوري لترسيخ الانفتاح والعلنية، بل تحتاج في جوهر الأمر لمواصلة جهد تعديل وانفتاح "العقلية البرلمانية" وتعزيز المقاربة الإيجابية في تدبير الشأن البرلماني والعام.