إن من يستقرئ تاريخ هيئات المحامين بالمغرب،يجد أنها من الهيئات الأكثر تنظيما وتماسكا لا تضاهيها في ذلك أية نقابة كيفما كانت نوعها، ويرجع ذلك إلى طبيعة المهنة وتاريخها العريق ، وأن من سماتها الأساسية كونها حقوقية بامتياز تدافع عن الإنسان بل تجعل من قضية الإنسان مركز ومحور أهدافها النبيلة، لذلك بقيت محافظة وفية لرسالتها التاريخية التي حملتها والأمانة الملقاة على عاتقها، دون كلل اوأن يطال مواقفها اي تغيير ومن ثمة يمكن أن نطلق على مهنة المحاماة "مهنة المحافظين" لأنها حافظت عبر التاريخ عن استقلاليتها وعن تماسكها بواسطة أعرافها وتقاليدها العتيدة، وأن ما ساعدها على ذلك كونها تأخذ بنظام يمزج بين القانونين القانون الجامدة وهو المكتوب المتمثل في قانون المهنة الذي تشرف عليها وزارة العدل بمشاركة هيئات المحامين والقانون المرنة وهو غير المكتوبة المتمثلة في الأعراف والتقاليد التي تلقن للمحامين بالممارسة لجيل بعد جيل للأجيال الصاعدة وهي التي تحكم علاقات المحامين فيما بينهم جميعا وهذا هو سر اختلافها عن الهيئات المهنية الأخرى. مع الزمن لقد تغير كل شيء من حولنا لم تعد المحاماة كما كانت عليها، فما عليها إلا أن تبني بنيانا جديدا لذاتها تتماشى وتتأقلم مع التحولات التي طالت المحيط الذي تربطها بها علاقة وطيدة والتي تؤثر في كيانها سلبا وإيجابا، ولكي نرصد هذا التطور الذي حدث بالطفرة غير محسوبة ورياح التغيير التي استطاعت أن تجعل المحامين أن يقفوا وقفة تأملية فيما يجري حولهم من أجل إعادة قراءة المشهد العدالة قراءة جديدة تختلف عن القراءات الكلاسيكية،أي عما كانت عليها في السابق لان الوضع تغير والمواقع تغيرت أيضا من جراء التحولات البنيوية، ويمكن حصر هذه التحولات الى التحولات الخارجية والداخلية . التحولات الخارجية : فبعد ما أن كانت وزارة العدل هي صاحبة الحل والعقد قبل التحولات الجذرية التي عرفتها السلطة القضائية بمقتضى الدستور 2011،وبعدما كان المحاماة في صلب اي تحول قبل أن يطرأ ، ظهرت رئاسة النيابة العامة -التي تتمتع بالاستقلال المالي لم يكن لها في الماضي- كمكون أساسي لتلعب دور اللاعبين الكبار يضاهي لعب رئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، لم يسبق لها في تاريخها أن اضطلعت بهذا الدور في منظومة العدالة، صحيح دورها لم يكن يستهان به كجهاز أساسي ولكن ليس كما هو عليها الآن الفرق شاسع بينهما في الاول كان الأمر يسند إلى وزير العدل وهو من ذوي رجال السياسية وأما الآن يسند الأمر إلى رجال النيابة العامة تشبعوا بأدبياتها، في خضم هذه التحولات التي كانت تدور بين أعين المحامين، لم يستوعبوها كانت الهيئات النقابية جامدة لم تتحرك لتقوم بدورها المتمثل في تجديد آلياتها الذاتية للدفاع عن مكاسبها والحفاظ عليها وذلك لتحصين مجالها الذي تتحرك فيه من رياح التغيير،غير أنها بقيت غارقة في الحفاظ على النمط القديم أي الاهتمام بصراعات الانتخاب النقيب وأعضاء المجلس فشغلهم ذلك عن نفسهم و عما يدور حولهم من التحولات. التحولات الداخلية: بالرغم من كل التحولات التي كانت تدور حولهم بقيت دار لقمان على حالها وكان النقاش الذي يطغى بين المحامين ويشد اهتماماتهم ينصب على من هو النقيب المرشح ما أن تنتهي الإنتخابات المهنية حتى تطفو وتظهر على السطح من جديد وتسيطر على التوجهات وعقول المحامين ويبقى الصراع سيد الموقف دائرا رحاه طيلة ولاية النقيب المنتخب وتنتشر العداوات المجانية ،وهذا السلوك لم يكن مطروحا في السابق ولم يكن المحامون يعيشونه مما ساهم في إغراق تفكير المحامين في النظر الضيق وهو انشغال بالانتخابات فشغلهم ذلك عما هو أهم من الانتخابات هي التغيرات والتحولات الجوهرية التي لم يواكبها المحامون مما جعلهم أن يتخلفوا عن الركب من أجل تجديد المفاهيم وكذلك من أجل تجديد النظر حول مجريات التحولات الجذرية التي طرأت وسوف تتطور أكثر في المستقبل القريب ستربك جميع الفاعلين في العدالة بما فيهم المحامون،فإذا كانت المحاماة تعيش ما تعيشه الآن من المشاكل فإنها ترجع بالأساس إلى كون هذه التحولات التي أدت إلى انتقال الوضع من الحال الى حال آخر كيفما كانت طبيعة الانتقال فإن هذه التحولات يجب أن يستوعبها و يستحضرها المحامون ،لانها تؤسس إلى القطيعة مع الماضي أي لم يعد الأمر على أنها مرحلة انتقالية كما اعتدنا بل إنها تشكل قطيعة مع المجد الذي كانت تعيشه المحاماة،ومن ثمة فإن المحامين يعيشون بداية جديدة أو عصرا جديدا يجب البحث فيها عن آليات أخرى تتناسب وتتماشى مع التحولات التي يشهدها مشهد العدالة بجميع مكوناته ، إن خلق هذا الجو البائس المتمثل في انشغال بالانتخابات وهذه البدعة السيئة أحدثت نوعا من صرف الاهتمام عن مشاكل المهنة بدل التعاون بين الجميع نحو تحقيق المكتسبات في ظل التحولات التي تواجهها، وتعميق النقاش حول خلق مفاهيم جديدة وابتكار وسائل حديثة تواكب تطورات المشهد العدالة، لقد ألفت نظري الوثيقة الصادرة عن الرئيس المنتدب بالسلطة القضائية التي تحمل عنوان : المخطط الاستراتيجية الاول من 2021/ 2026 يبدومن خلال هذا البرنامج أهداف يسعى إلى تحقيقها بواسطة هذا التفكير المبني على برنامج زمني دقيق يوحي على أن المؤسسة القضائية تسير قدما نحو التطور السريع وبرهنت على أنها لها قابلية التجديد والإبداع الذي أصبح ملموسا، لا أناقش مضمون الوثيقة وانما اقف على المنهجية المتبعة التي لم يسبق أن تم التفكير فيها وهي فكرة مبنية على بعد النظر وعلى حكامة التفكير الحداثي . فهذا النوع من التفكير المبني عن الحكامة الاستراتيجية للسلطة القضائية ،يجب أن يفكر فيه المحامون قبل غيرهم نظرا لخبرتهم الكبيرة في المجال السياسي والنقابي والجمعوي ونظرا لتمتعهم بفكر حداثي تحرري ومهنتهم الحرة المستقلة، ولن يتأتى ذلك إلا بأحداث مجلس التنظير ينظر في مستقبل المهنة لمواكبة التحولات الطارئة وهذا المجلس يتكون من المحامين لهم خبرة واسعة يتميزون بالتحصين معرفي ، تسند إليهم مهمة خلق آليات جديدة لتطوير عقل المحاماة وكذلك تطوير تدبير حداثي للمؤسسات المشرفة على الشأن العام للمحامين ، ولن يتأتى ذلك إلا بفتح المجال للقوة الاقتراحية لحكماء المحامين من النقباء الحاليين والسابقين، يلتئمون في كيان جديد مستقل مؤسساتي يسند رئاسته بشكل تداولي كل سنة إلى نقيب ينتمي إلى هيئة من الهيئات السبعة عشر، يجتمعون في أيام دراسية مرتين في السنة يناقشون فيها بعمق الإشكاليات المستعصية على جمعية هيئات المحامين يحق لها اشهار فيتو قراطية في كل ما من شأنه يسيء إلى المهنة أو لا يخدم مصالح المحاماة. نقد نمط الاقتراع : إعلم أن مؤسسة نقيب المحامين لها شأن كبير وتحظى بمكانة هامة في العالم،كما في المغرب ويمكن اعتبار المكانة الاعتبارية للنقيب هو القلب النابض للمحامين، ويمكن أن أشبه إن صح التشبيه الحضوة التي يحظى بها السيد النقيب مثل مملكة النحل التي يتجمع حولها النحل وتراهم حافين حولها يحمونها وتحميهم يستمدون قوتهم منه ويستمد بأسه منهم هذه العلاقة المترابطة بينهم غريبة ونادرة كالنحل لا تفسير لها لكونها بنيت منذ الأزل على أن كلمة النقيب قوية ذات وقع كبير في أوساط المحامين كالسيف لا تراجع فيها لحماية مصالح المحامين وترى يومئذ المحامين حافين حوله يصدقونه ويصدقهم وحقت كلمته عليهم وحق عليه سماع صوتهم ،وإذا ذكرت كلمة توحيد المحاماة والابتعاد عن كل ما يقوضها حتى لا تضمحل قوتهم ، اشمأزت قلوب الذين لايبغونها الخير والفلاح، إن قوة المحامين في قوة النقيب أي تكمن في وضع مؤسسة النقيب في مكانة عالية ومرموقة كما كانت في غابر الأزمان.وحتى تكون كذلك فإنه من الواجب إصلاح ونقد عيوب التي تطال طريقة الاقتراع. إن من بين المسائل التي يجب النظر والالتفات إليها هي نمط اقتراع السادة النقباء وأعضاء المجلس كمدخل أساسي لتجديد آليات تسيير الشأن العام،فبالرجوع إلى المادة 85 من قانون المهنة نلاحظ أنها تحدد طريقة الاقتراع نقباء هيئات المحامين، يستفاد من النص أنه حدد نمط الاقتراع في الاقتراع السري المباشر بالأغلبية المطلقة إن أمكن أو بالأغلبية النسبية فيتم الانتقال إلى الدور الثاني كل من حصل على مرتبة الاولى والثانية يخوض غمار هذه الانتخابات داخل مجلس الشيوخ كما سيأتي الحديث عنه ،إن ما يعاب على هذا النمط الاقتراع هو أنه أصبح متجاوزا ،فإذا كان في السابق صالحا كونه كان تحكمه عدد المحامين الذين هم قليلون يعرفون بعضهم بعض جيدا،وبالتالي تكون معالم معرفة النقيب المنتظر بنسبة كبيرة جدا بمجرد إعلان عن المرشحين ،لأن هؤلاء المرشحين كان عددهم على رؤوس الأسابيع أما اليوم فإن عدد المرشحين لمنصب النقيب كبير و القاعدة عريضة جدا وكبيرة تضاعفت بشكل كبير وكلهم محامون شباب حديثو العهد بالمحاماة تنقصهم التجربة والعناصر المعيارية لاختيار النقيب لم يتشبعوا بأعراف وتقاليد المهنة التي تكسبهم مناعة الاختراق وتعصمهم عن الخطأ، وتعطيهم حصانة الاختيار،وأسوق مثالا على ذلك هناك كثير من المحامين تنتهي عندهم فترة التمرين في شهر نونبر ليدخلوا مباشرة ضمن زمرة الرسميين أي قبل الانتخابات بشهر(ديسمبر) يكون بذلك له الحق التصويت ، قطعا هؤلاء لا يمكن أن يحسن اختيار النقيب من قناعته الذاتية لابد أن يستعين بزملائه الآخرين وبالتالي يكون سهل التأثير عليهم ، لذا نرى أن نمط الاقتراع الحالي لم يعد الآن صالحا لا يفي بالمطلوب لأن انتخاب النقيب لا يشبه أي انتخاب وهو يضاهي انتخاب رئيس الدولة اوالحكومة لمسؤوليته الجسيمة التي يتحملها ودوره الريادي في إبداء الرأي حول مشاريع القوانين التي تخص المجتمع بصفة عامة وإدلاء برأيه في تسيير سياسة العدالة في البلاد، ولا يقتصر دوره على التسيير الإداري للمحامين كتمكينهم بشواهد العمل وغير ذلك من الأمور الادارية. إن الاقتراع الذي نرى أنه الأنسب والأصلح يتناسب ويتماشى مع المرحلة الراهنة التي توسعت فيه قاعدة المحامين الشباب وتغيرت مكونات مشهد العدالة،وهو الاعتماد والأخذ بازدواجية الاقتراع والمزج بين الاقتراع المباشر والغير المباشر، يحق للجمعية العمومية ولجميع الشباب كلهم انتخاب النقيب عن طريق الاقتراع السري المباشر اعتمادا على الأغلبية النسبية للمصوتين ،مهما كان عددهم . وفي الدور الثاني يقتصر الترشيح لمنصب النقيب على المرشحين الاول والثاني الحاصلين على أكبر عدد من الأصوات في الاقتراع السري المباشر، في هذا الدور الثاني ينتخب فيه النقيب عن طريق الاقتراع السري غير المباشر ويتم تطبيق هذا النمط من الاقتراع في مجلس يتم احداثه وهو ما يمكن أن أسميه ب " مجلس الشيوخ " وهذا المجلس يتكون من من جميع النقباء السابقين وجميع أعضاء المجالس المتعاقبة على المجلس وهذا المجلس ارتأيت بتسميته بمجلس الشيوخ نسبة لكبر سنهم ولكبر خبرتهم في تسيير الشأن المحامين وتجربتهم الطويلة في المهنة، ينتخب هذا المجلس النقيب بعد مناقشة مجموعة من المعايير التي يجب أن تتوفر في النقيب المنتظر. أما انتخاب أعضاء المجلس فإن المادة 84 من ق المهنة تنص على " ينتخب كل من النقيب ومجلس الهيئة لمدة ثلاث سنوات" فإن من المشاكل التي تعاني منها المجالس الهيئات أنه يتم التصويت على نصف المجلس من الفئة العمرية أقل من 20 عام من ممارسة المهنة والنصف الآخر من الفئة العمرية فوق 20 عام من ممارسة المهنة، يبدو أن من صعوبات عدم الانسجام وارتباك في اتخاذ القرارات داخل المجلس الهيئة خصوصا في العام الأول الذي يكون فيه المجلس أغلبهم جدد في تسيير الشأن العام ولا تكن لهم تجربة وخبرة في مواجهات القرارات المصيرية تخص كيان المحامين، وإني أرى أن لا اختلاف في نمط اقتراع الأعضاء وإنما اقترح تعديل تشكيلة تكوين المجلس،فهو إذا كان عمر الولاية ثلاث سنوات فإنه يتم انتخاب ثلث أعضاء المجلس في كل سنة بهكذا سيكون كل الاعضاء متمرسين ويكتسبون خبرة كافية في اتخاذ قرارات حكيمة وناجعة ، بمعنى أنه ثلث أعضاء المجلس سيتم تجديدهم كل سنة بواسطة الانتخابات، كما اقترح إجراء دورات تكوينية لمن يريد تقديم نفسه كمرشح لانتخابات أعضاء المجلس، اكيد من شأن هذا التكوين يكون لدى المرشح فكرة عن المسؤولية الجسيمة التي هو مقبل عليها تخول له التمسك بترشيحه أو الانسحاب منها. إن هذه المقترحات هي مجرد أرضية للنقاش من أجل إعادة النظر في طريقة الاقتراع التي أصبحت في نظرنا متجاوزة لفتح الباب أمام مقترحات تتماشى مع الوضع الجديد للمحامين لأن قاعدة المحامين الشباب توسعت بشكل متسارع وكبير، فكان لابد من تجديد أصول الاقتراع وتجديد المفاهيم تواكب تطورات المشهد العدالة.