عندما يَعجزُ حاضرُ أمّةٍ من الأمم عن "إنتاج" شخصياتٍ وتحقيق إنجازاتٍ في مستوى متطلبات اللحظة الراهنة، فإن العملَ على اكتساب "الشرعية والمشروعية" في الحاضر غالبًا ما يتمّ عَبْرَ مَسلكين اثنين على الأقل: الأول: التوجّه نحو الماضي لاستدعاء رموز وإنجازات تاريخية من داخل مرجعية تلك الأمّة… الثاني: التوجّه نحو الماضي لاستدعاء رموز وإنجازات تاريخية من خارج مرجعية تلك الأمة. وغالبا ما يتم التركيزُ -خاصة إعلاميا وسياسيا- على المسلك الأول فيتم وصف الاتجاهات التي تنطلق من المرجعية الإسلامية بكونها اتجاهات سلفية (البعض يستعمل كلمة ماضوية) تستلهم نموذجها من نماذج تاريخية… وأمام هذا الوصف يحاول أصحاب المرجعية الإسلامية الدفاع عن أنفسهم عن طريق إنتاج خطاب فيه قدر كبير من الاعتزاز بالسلف الصالح وتطعيم هذا الخطاب بمجموعة من النصوص القرآنية والحديثية… وهذا المنحى هو منحى دفاعي يَفترض أن الآخر الناقد لهذا التوجه هو بالفعل اتجاه منقطع الصلة عن التاريخ وعن سلفٍ ما…! وهذا ليس صحيحا على الإطلاق! فقد نكون أمام سَلفيات كثيرة: سلفية تبني نموذجها من التاريخ الإسلامي، وأخرى تستلهمه من التاريخ الغربي، وثالثة تؤسسه بالمزج بين تواريخ ثقافية وحضارية مختلفة. وإن كل فكرة لها تاريخ وكل إبداع له تاريخ، والرجوع إلى لحظة تاريخية ورموزها ليس سمة غالبة على المسلمين فقط (أو على السلفيين فقط)، فكل حضارة لها تاريخها ولها رموزها التي تستلهم منها نماذجها المجتمعية. ومن ناحية أخرى، فإنَّ "سلفية الذات" تستبطن فكرةَ أن ماضي "الأنا الحضارية" هو الحل وخارطة الطريق… فيما تستبطنُ "سلفية الآخر" فكرة أن ماضي "الآخر الحضاري" هو الحل وخارطة الطريق. وفي كلتا الحالتين يؤدي النزوعُ نحو اكتساب "الشرعية والمشروعية" في الحاضر من خلال رموز وإنجازات الماضي إلى "الاغتراب في الحاضر". في الحالة الأولى يكون هناكَ تهميشُ للسياق (بأبعاده الحضارية المختلفة)، وفي الحالة الثانية يكون هناك تهميش للبوصلة (المرجعية والرؤية للعالم). وأعتقد أن السبيلَ إلى الخروج من "دائرة الاغتراب" يتمثل في الاجتهاد والعمل على الجمع بين هداياتِ البوصلةِ ومتطلباتِ السياقِ، وكذا الحفر في طبيعة السلفية التي تستبطنها الاتجاهات التي تنتقد "السلفية الإسلامية"، والتي تؤطرها مجموعة من النصوص التي تنتمي هي الأخرى إلى التاريخ ولها رموزها وأسيقتها الخاصة أيضا (السلفية العلمانية مثلا). إن ما سبق لا يعني بالضرورة أن مقاربة الاتجاهات المحسوبة على "التيار السلفي" لمسألة السلفية والسلف الصالح مقاربة سليمة؛ فهذه الاتجاهات لم تستطع -أو ربما لا تريد- أن تُميز في تراث السلف بين ما هو من الثوابت وبين ما هو من المتغيرات، وبين المنهج والجزئيات… وإنما يحاول أن يؤكد أهمية الوعي بوجود سلفيات كثيرة في الحقل الثقافي العربي والإسلامي، لأن هذا يساعد على فهم مختلف الأفكار والمنظومات، ويسهم في الانتقال -خاصة بالخطاب الإسلامي- من "الدفاع السلبي" إلى "التأسيس الإيجابي". والله أعلم.