«أتعرض للتحرش دائما وفي أي مكان، إنه حال جميع الفتيات والنساء، مهما كانت درجة جمالهن وشكلهن»! هكذا بدأت «سلمى»، 22 سنة، طالبة، حديثها عن موضوع يبدو أنه يثير لديها إحساسا مزدوجا بالغضب وبالحماس للخوض فيه، على خلاف الكثيرات من اللواتي في سنها. «تزعجني المعاكسات جدا، حتى اللطيفة منها، حتى لو كانت تتغزل بجمالي، وجمال قوامي»، تقول «سلمى»، بشكل قاطع، لأنها تشعر بأن تلك المعاكسات تنتهك خصوصيتها، وتحدّ من حرية حركتها في الشارع، وأحيانا تضطرها إلى تغيير الشارع الذي تمر به. قمع الجسد لمنع التحرش! المعاكسات قد تكون مجرد طرق لبعض الرجال والشبان للفت انتباه النساء، وكما يختلف هؤلاء «الذكور» باختلاف تجاربهم وثقافاتهم، ونمط تربيتهم، تتفاوت استجابات النساء لهذه المحاولات للاستثارة. «سلمى» من اللواتي يعتبرن معاكسات الشبان لها انتهاكا لحريتها وحقوقها؛ «حاولت كثيرا أن أوقف المعاكسات ولكن التحرش لا يتوقف، أرتدي ملابس فضفاضة ولا أستخدم مساحيق التجميل، وأمضي أكثر من ساعة كل يوم أمام دولاب الملابس للبحث عن ملابس من أجل إخفاء ملامح جسدي». لا تتذكر كم مرة تعرضت فيها هذه الشابة إلى التحرش لأنه، حسب قولها، لا يمر يوم لا تسمع فيه كلاما وعبارات مخلة بالأخلاق، إلى درجة أنها تعودت على الأمر، لكن ما ترفضه بشدة، أن تتكرر المعاكسات من شاب بعينه، أو يتطور الأمر إلى ما لا تُحمد عقباه، وتحكي كمثال على ذلك قصتها مع أحدهم، منذ نحو شهرين أو ثلاثة، «كنتُ في معرض الكتب المستعملة في درب السلطان بالدار البيضاء، وكان المعرض مكتظا بالشبان والشابات، وظل أحدهم يتعقبني، وفجأة أمسك مؤخرتي أمام الجميع، فصرخت بقوة، لكنه فر وإن لم يتدخل أحد!».
تحرش إلى أبعد مدى تختلف قصة «هبة الله»، مع التحرش، عن حكاية «سلمى» التي لا تكبرها إلا بسنتين، وهي طالبة جامعية مثلها. تتذكر التفاصيل الدقيقة للقصة بامتعاض، تسردها بألم بادٍ على حركة يديها وشفتيها، كأنها تعيش وقائعها من جديد. كانت تقضي العطلة الصيفية مع عائلتها في أگادير؛ «أقمنا وقتها في فندق، فجلست يوما وحيدة في قسم الاستقبال أطالع المجلات. أذكر أنه كان يوجد شاب يطيل النظر إلي حتى تقدم وطلب الجلوس معي، ترددت ولكنني انتهيت بالموافقة، وجلسنا وتبادلنا أطراف الحديث وعندما أخبرته برغبتي في الذهاب، فاجأني وبادر بمصاحبتي إلى المصعد. لم أعلق كثيرا على الموضوع لظني أنه سيذهب في حال سبيله بعد ذلك. دخلنا المصعد وهنا وقعت الصدمة الكبرى، حينما هجم علي دون سابق إنذار، محاولا تقبيلي، فدفعته بقوة دون أن أنطق حرفا واحدا، بل دون أن أشتمه. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل تجرأ وطلب مرافقتي إلى الغرفة! لأول مرة، أشعر بأن ذكائي خانني، فقد فكرت أنه ربما يتوجب علي أن أتعامل معه بسياسة وهدوء أكثر، فلقد كان شابا قويا ضخم البنية ولم أتجرأ على الصراخ أو محاولة تعنيفه وبصراحة خفت من الفضيحة، وطلبت منه بتهذيب كبير أن يتركني وأن يذهب لأن والدي في طريقهما إلى الفندق، وفعلا اعتذر وذهب». أنهت «هبة الله» بوحها وأخذت نفسا عميقا كأنها أزاحت عن عاتقها حملا ثقيلا.
تحرش فمحاولة اغتصاب! إذا كانت «سلمى» قد حاولت «قمع» جسدها لتسد كل ذرائع التحرش بها، فإن حنان، الشابة ذات الستة والعشرين ربيعا، المحجبة، تقول إن ذلك لم يجد نفعا للحؤول دون التحرش بها. تحكي أنها تعرضت منذ عدة سنوات لتحرش جنسي فاضح في الطريق من طرف شاب يكبرها عمرا بكثير. بدأت القصة عندما كانت «حنان» في طريقها إلى زيارة خالتها التي تسكن في حي سيدي مومن بالدار البيضاء؛ «نزلتُ من الحافلة ونزل خلفي أحد الشبان، وبعد حوالي بضع خطوات بدأ يتغزل بي، تم بدأ يدعوني إلى التوقف لتبادل أطراف الحديث معه، لكني أسرعت الخُطى، وظل يلاحقني، ليبدأ بمعاكسات لفظية بإيحاءات جنسية. عندما وصل الشاب إلى هذا المستوى من الحديث، شعرت بأنه لابد من أن أفعل شيئا ما، فالتفتت وصرخت في وجهه، وقلت له: إذا لم تذهب من هنا سأصرخ بأعلى صوتي. ظننت بأنه سوف يخاف ويذهب، ثم أسرعت في خطواتي بأقصى ما يمكن، لكن الشاب استمر في ملاحقتي حتى وصلت إلى زقاق ضيق، حيث بيت خالتي، عندها هاجمني، فأخذت أصرخ بكل قوتي وبدأت بضربه، ولأنه كان أقوى مني، استطاع أن يثبتني إلى الجدار وحاول نزع معطفي. في هذه اللحظة تعالى صوتي بالصراخ، مثل المجنونة، حتى خرج الناس من بيوتهم، وأمسكوا به، لينهالوا عليه بالضرب، وظل يصرخ ويطلب مني أن أسامحه وأن لا أبلغ الشرطة، وبالفعل سامحته وتركه سكان الحي يذهب إلى سبيله». تتوقف «حنان» لتلتقط أنفاسها، ثم تحاول أن تبرر «مُسامحة» من حاول الاعتداء عليها في الشارع العام؛ «بعد الفضيحة في الشارع، وقرب بيت خالتي، شعرت بالعار، لذلك لم أحاول التمادي في ذلك بإبلاغ الشرطة فسامحته».
المرأة ملكية «مشاعة» «عائشة» الأكبر سنا بكثير من «سلمى»، و»هبة الله»، و»حنان»، فهي في عقدها الرابع ولا تسلم من التحرش! «مابقاوش كيحتارمو لا كبير ولا صغير، لا مزوجة ولا حاملة»، هكذا بدأت «عائشة» عن تجربتها الشخصية مع التحرش الجنسي أكثر من مرة؛ «رغم أنني أرتدي الحجاب والجلباب، ورغم سني، إلا أنه لا يتم احترامي، ليس فقط من طرف الشبان، بل حتى من كبار السن، خصوصا بعبارات مشينة». توضح أنها لا يمكنها «تصنيف تلك العبارات بين مسيئة وغير مسيئة، فالتحرش، كيفما كان، مسيء للمرأة»، ثم تتحول في حديثها إلى تطور التحرش من لفظي إلى آخر يصل إلى اللمس؛ «يكون هذا في الأماكن المزدحمة كالأسواق والحافلات وسيارات الأجرة الكبيرة»، ثم تستدرك قائلة «أما إذا كانت المرأة في الشارع فيكتفي المتحرش برميها ببعض الكلمات والعبارات الجنسية، والمشكلة أنه قد تكون لدى هذا الرجل أو الشاب سيارة، فيظل يلاحقها، وهذا أكثر ما يزعجني لأنني أخشى أن يراني أحدٌ من معارفي، ويظن بي السوء»، وقبل أن تمضي إلى حال سبيلها تخلص «عائشة» إلى أن «المتحرش يتحرش لعلمه اليقين بعدم وجود عقوبة أو قانون لمحاسبته، أي أن التحرش لا علاقة له بلباس الفتاة أو مفاتنها، بل ينطلق من اعتبار المرأة ملكية عامة للجميع»!
العمل فضاء للتحرش ليس الشارع هو المكان «الحصري» للتحرش، ف»إيمان»، التي لم تكمل بعد عقدها الثالث والتي تعمل في وكالة أسفار، حاول مديرها في العمل لمس يدها أكثر من مرة، وغضت الطرف، ظنا منها أن الموضوع غير مقصود؛ «حاول عدة مرات أن يلمسني عنوة، فهو يتعامل بهذه الطريقة مع أكثر من موظفة، لكني عندما رفضت الاستجابة لرغباته. تعمد عندها التعليق على ملابسي، معتبرا أنها «لا تليق بالعمل»، فهي محتشمة جدا وما إن سألته عن الطريقة المناسبة، حتى انهال علي بالشتائم والكلمات النابية، قائلاً «هل تظنين أني أريد جسدك إنك لا تعنيني»! قصة «إيمان» ليست فريدة، فهي كثيرا ما تتكرر في أماكن العمل، حيث يعتبر المدير أو الشخص المسؤول، أن كل النساء اللواتي يعملن لديه، هن «جواريه»، حسب وصف «غزلان»، التي وقعت، هي الأخرى، ضحية للتحر ش في فضاء العمل ما جعلها تغادره بالمرة. تروي تجربتها المريرة بشعور مفعم بالألم والندم ؛ «لم أتخيل يوما بأني سأعمل مع مدير شهواني إلى هذا الحد. منذ أول يوم لي بالعمل كانت محاولات تحرشه بي واضحة، وكان يتفنن في ابتكار أسلوب جديد وألفاظ جديدة مع كل صباح، دون يأس أو ملل، وفي الحقيقة كنت أحتاج إلى تلك الوظيفة، ولم يكن هناك من بديل، والمؤلم أني وصلت إلى مرحلة شعرت فيها بالضعف، خاصة أنني لم أستطع منعه والصراخ في وجهه، أو حتى مقاضاته لأنه ليس لدي دليل أثبت به ذلك أمام المحكمة»، لتُطوى حكايات «إيمان» وأخواتها وتُرصد داخل جدران الكتمان.
«التحرش يزيدني ثقة في النفس» لا ترى «بشرى»، طالبة في ال22 من عمرها، بأسا في بعض المعاكسات اللطيفة، عندما يتغزل شاب ما في الطريق أو في الكلية بجمالها أو بأناقتها، «فهذا النوع من التحرش، إذا جاز أن نسميه تحرشا، يذكرني بأني جميلة، وأنيقة، وأحيانا تشعرني العبارات التي يُسمعني إياها الشبان بأنني مرغوب في، ما يجعلني أكثر ثقة بنفسي»! لكن المشكلة، برأي «بشرى»، أن هناك شبانا يستخدمون تلمحيات جنسية فاحشة؛ «أحيانا عندما أرفض الحديث معهم، يبدؤون بالتلفظ بكلمات وعبارات جنسية مخلة بالآداب». ففي كثير من الأحيان تتعرض «بشرى»، حسب ما روته، إلى مضايقات لفظية قاسية، عندما يغضب شبان بسبب إهمالها لتعليقاتهم، خصوصا تلك التي تكون غير لائقة منذ البداية. «بشرى» ليست وحدها من «تستمتع» ب»التحرش اللطيف» بها، ف»سارة»، مستخدمة شابة في أحد مراكز الاستماع، تحب أن «يعاكسها» الشبان، حسب قولها، وهي كثيرا ما تستجيب لهم بابتسامة؛ «معاكسة الشبان تشعرني بأنني جميلة ومميزة، ولكنها تزعجني عندما تتحول إلى تحرش حقيقي، ويصبح الشبان لجوجين في دعوتهم إلى احتساء فنجان قهوة في مقهى ما، بل يتطاولون أحيانا إلى دعوتي إلى منازلهم. وأكثر ما يزعجني أن تتطور الأمور مع بعض هؤلاء الشبان، وإن كانوا قلة، عندما يتجاوزون حدود التحرش اللفظي، إلى التحرش باللمس بطريقة شاذة، وبأماكن حساسة. عندها أضطر للتصرف بعنف أو إلى طلب المساعدة من الرواد الآخرين للطريق الذي لا يترددون في إنقاذي، لكن المشكلة أني أخرج أحيانا من ورطة من هذا النوع لأقع في ورطة أخرى مع منقذي. فقد حصل أكثر من مرة أن ساعدني رجل يظهر عليه أنه شخص شهم ومحترم، ليقوم بعد ذلك بتقديم عروض تكشف عن نواياه مثل دعوتي لاحتساء فنجان قهوة أو دعوتي إلى بيته القريب، وفي أحسن الأحوال إيصالي إلى بيتي في محاولة منه لقضاء أطول وقت ممكن معي ليجرب حظه»!
عبد السلام أديب : عضو مؤسس لشبكة مناهضة التحرش الجنسي التحرش الجنسي راجع بالأساس إلى ثقافتنا الدينية
ماهي أسباب التحرش الجنسي في مجتمعنا؟ الأسباب عديدة ولكن أبرزها راجع إلى ثقافتنا الدينية التي أدت إلى عدد من الخروقات الوهمية حول المرأة والرجل، حيث تعتبر قراءتنا للدين أن المرأة مُسَّخرة للرجل وأن شهاداتها لا يُأخد بها وأن الولد أحسن من البنت وأنه يرث أكثر منها، وأن الرجل له الحق في الزواج بأربع نساء. هذه كلها أفكار وثقافة تعتبر أن المرأة مسخرة فقط لخدمة الرجل وعليها أن تستجيب لجميع شهواته.
من المسؤول عن التحرش الجنسي؟ يصعب تحديد من المسؤول عن التحرش ولكن عدم التوازن الثقافي في ذهن المرأة والرجل، ونظرة هذا الأخير إلى المرأة نظرة دونية، بالإضافة إلى الصورة التي يصورها الإعلام عن المرأة، باعتبارها فقط شكلا بلا مضمون، كلّها تساهم في هذا الوضع، لكن لابد من أن نعلم جميعا أنه من حق المرأة أن ترتدي اللباس الذي يناسبها، على أن لا يكون مبتذلا ومبالغا فيه، وعلى الرجل أن يكون منفتحا، وواعيا بأن هذه المرأة التي يتحرش بها هي أخته أو زوجته أو أمه.
في أي حالة يمكن للمرأة أن تتقدم بشكوى ضد التحرش الجنسي؟ يصعب على المرأة المغربية والعربية عموما أن تتقدم بشكوى ضد التحرش الجنسي خوفا من تشويه سمعتها في مجتمعها وأنه سينظر إليها على أنها مذنبة، كما أنها تخشى من الطرد من عملها أو الطلاق من الزوجية إذا وصل الأمر إلى الأزواج. وفي حالة ما اذا تقدمت بشكوى فإن الأمر يتطلب تحقيقا، وقد وقعت حالات استقبلناها، اتضح فيها أن الشكوى هي فقط لتصفية حسابات مع شخص له معرفة مسبقة بالمشتكية.
لكن هناك إشكالات قانونية في إثبات حالات التحرش… هناك الفصل 503 من القانون الجنائي الذي يعاقب بالحبس من سنة إلى سنتين وبالغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف درهم للمتحرش، لكن على المشتكي أن يثبت ذلك..