يسخر ظرفاء المواقع الاجتماعية من سعد الدين العثماني، منذ شهور، لأنه أول رئيس حكومة مغربي لا ينعم في عهده المغاربة بالفرح (والعزاء أيضا)، والاستحمام، والصلاة، والحج، والعمل، والدراسة، والاستجمام في الشواطئ، والسفر، والبيع والشراء، الخ. استحالت الحياة في زمن كورونا إلى عدم، إذ افتقد الإنسان المغربي عاداته وطقوسه وممارساته الثقافية والفنية اليومية والموسمية على حد سواء. في أشهر معدودات، باتت مهرجانات الموسيقى والمسرح والسينما تبدو كأنها تنتمي إلى القرون الوسطى. أما ملتقيات الفكر والأدب والتاريخ والدين وباقي الحقول المعرفية الأخرى، التي كانت، قبل زمن الوباء، لا تحظى سوى بجمهور معدود على رؤوس الأصابع، فربما يصير شكلها «القديم»، بعد مدة، موضوعا للبحث التاريخي، ولم لا للتنقيب الأثري والحفريات. فيما قد تتحول -لا قدر الله- المكتبات والمسارح والمعارض والأروقة ودور الثقافة ودور السينما، على قلتها، وحتى المدارس والجامعات ربما، إلى أطلال أو مآثر ومعالم متحفية في أحسن الأحوال. سيصير كل هذا الإرث اللامادي المتواصل منذ قرون (أحيدوس وأحواش والركادة والعيطة والطرب الأندلسي والغرناطي والحلقة والفروسية والتبوريدة وموكب الشموع والجدبة الصوفية ومواسم الأضرحة والصدقات والكسكس يوم الجمعة وغير ذلك) في خبر كان، إذا استمر فيروس كورونا بيننا (وهو سيستمر بلا شك، بعدما بات تلقيح المغاربة اليوم موضع شك كبير، وبعدما أعلنت وزارة الصحة ظهور طفرة كوفيد19 «البريطانية» بين ظهرانينا قبل يومين فقط). هل ثمة ما يفيد بوقوع هذه الكارثة في ثقافتنا المغربية؟ وما الذي يشي بحصولها؟ نعم، ولا. نعم، لأن كل هذه التجليات تفتقر إلى طابعها الاحتفالي والفرجوي، بما يعنيه ذلك من التقاء واجتماع واحتشاد وحميمية ونزوع إنساني واجتماعي، ومن حركة مادية ونشاط اقتصادي طبعا؛ أي ثمة صبغة اجتماعية آخذة في الاندثار والتلاشي بسبب الوباء الفيروسي. ولا، لأن كل هذه التجليات بدأت تنتقل إلى العالم الرقمي، وتتخذ طابعا جماهيريا مغايرا عن واقعيتها العابرة والزائلة. الملاحظ أن جمهور الثقافة، بمختلف تجلياتها الفكرية والأدبية والفنية والفرجوية والاحتفالية، تضاعف كثيرا في زمن الزوم، مقارنة بالزمن الواقعي. فجمهور ندوات الفكر والأدب صار يحصى اليوم بالآلاف، وأحيانا بعشرات الآلاف، بعدما كان يُعد قبل العزلة الصحية بالعشرات، ولا يتعدى أربعين نفرا في أحسن الأحوال؛ ومع ذلك، ترى المنظمين فرحين بهذا العدد، لأنهم لم يكونوا يتوقعون حضور هذا العدد. أما جمهور الأغنية والفيلم القصير -وحتى الطويل-، فهو بمئات الآلاف، وربما الملايين. إلا أن هذه الجماهيرية الرقمية مهددة، هي الأخرى، بالزوال، لما يكتنف التكنولوجيا من أعراض وفيروسات قد تتلف كل الأرشيف المحفوظ رقميا وإلكترونيا. ومع ذلك، تكتسي التكنولوجيا أهمية خاصة، ذلك أن جماهيرية الثقافة المغربية لم تعد مقصورة على المغاربة وحدهم، بل تتعداهم إلى العالم أجمع. بمقدور أي مواطن مغربي اليوم أن يخاطب العالم كله، وأن يقدم نفسه ومنجزه (الثقافي، العلمي، الفني، الأدبي، الخ)، بل وحتى روتينه اليومي القاتل إلى أشخاص آخرين داخل وخارج الحدود. وقد يغنم من ذلك، إلى جانب الشهرة والانتشار، مكاسب مادية، ناهيك عن تحوله إلى شخص «مؤثر»، بما يعنيه ذلك من حظوة ومكانة. لكن، ما الذي نقدمه -نحن المغاربة- اليوم عن الثقافة والإنسان والواقع المغربي عموما؟ ثمة المئات من الندوات والحلقات الفكرية والمناقشات التحليلية والحلقات الأدبية والقراءات الشعرية المسجلة على موقع «اليوتيوب». يطمئن المرء، من خلال إحصائياتها، إلى أن الثقافة المغربية -تلك الميالة إلى التثقيف والتنوير، وحتى الإمتاع والمؤانسة- بخير. لكن، عندما تطالع إحصائيات مشاهدات فيديوهات البوز، فلا شك ستطرح السؤال عن أسباب ميل الجمهور إلى هذا القبح المستشري في المجتمع. من إحدى معاني كلمة «zoom» في اللغة الإنجليزية تركيز النظر (من خلال تكبير الصورة أو تصغيرها). كان يفترض بكل هذه الأنشطة، وهي تنتقل إلى العالم الرقمي، أن تركز النظر على خيبات المجتمع وتعثرات الإنسان وإخفاقات السياسة والاقتصاد، وأن تكبر صورة الواقع المغربي عموما. وإذا خشيت تبعات ذلك، فما عليها سوى أن تعرف بجوهر هذا الإنسان؛ أي بثقافته وفنونه وعاداته وطقوسه، أعراسه وحفلاته وأسواقه ومواسمه، رقصاته الشعبية وأهازيجه وأزجاله وأغانيه، أشعاره وقصصه ورواياته وخرافاته وأساطيره، أفكاره وفلسفاته، تاريخه وملاحمه وبطولاته... تركيز النظر هذا مازال غائبا، إلى حد بعيد، في ما نقدمه عبر «الزوم» وغيره كصورة عامة عن البلد والإنسان.