لم تكن انتخابات أمريكية وحسب. كانت "انتخابات عالمية"، وإن عَنَتْ على نحو مباشر الأمريكيين، مرشحين وناخبين. الجميع في "القرية الصغيرة" (هاته العبارة الودودة اللطيفة ابنة العولمة العنيفة) كان لهم مرشحٌ مفضّلٌ وشعروا طيلة أيام أنهم معنيون. إن الاهتمام بهذه الانتخابات فاقَ اهتمام كثير من المجتمعات بانتخاباتها المحلية، خاصة في البلدان التي لا تصنع الحدث، بل تصنعها الأحداث وصنّاع الأحداث في العالم من مثل انتخاب الرئيس الأمريكي. حبسَ العالم أنفاسه لأيام بانتظار النتيجة وهو يراقب الأرقام صعودا ونزولا يقدمها إعلام كاسحٌ ومُدَرّب على صنع الفرجة. ومباشرةً بعد إعلان كبريات المؤسسات الصحفية توقعاتها بفوز بايدن وخسارة ترامب سارعت العواصم لتهئنة الفائز، وكأن العالم ألقى عن كاهله ثقلا ويريد طيّ الصفحة سريعا دون إبطاء، لأن لا أحد كان يرغبُ في استمرار كابوسٍ مُمثل في ولاية جديدة لرئيس مُرهِق لا يتوقف عن إعطاء الإشارات، وفي كل الاتجاهات، أنه مستعدٌ لفعل أي شيء، وقول أي شيء، وإحراج أي كان. إلا إسرائيل. ترامب سيبقى حالة فريدة وعجيبة، وأيضا مُشينة، وقد تجلى ذلك حتى في تعامله مع نتيجة الانتخابات. أتعب العالم على امتداد أربع سنوات لأجل "أمريكا أولا"، والآن يتجرّع الأمريكيون من حماقاته وشطحاته وهو يبخّس ديمقراطيتهم ويطعن فيها ويمعن في الإساءة إليها كما لم يفعل أحدٌ قبله، إلى درجة أنه صوّر العملية كأنها تجري في "جمهورية موز" تنظم استحقاقا انتخابيا صُوريا لتبييض نتيجة محسومة سلفا (ألم يتحدث عن التزوير، وعن تصويت الموتى، وعن دسّ أوراق مشبوهة، وعن منع المراقبين، والكثير من "الموبقات" الانتخابية..). الرفض الذي أبداه ترامب للإقرار بالنتيجة سيبقى سابقة في الديمقراطية الأمريكية التي يقول البعض إنها تحتاج "إعادة نظر"، وقد عرّى كثيرا من عيوبها وأعطابها، إلى درجة تساؤل مراقبين ومختصين وعموم المتابعين عن إمكانية عدم تحقق انتقال سلمي للسلطة!!!. (ولَكَ أن تتوقف لحظة لتستوعب مدى عنف هذا السؤال عن احتمال عدم تحقق انتقال سلمي للسلطة في أمريكا). صحيفة "لوموند" الفرنسية كتبت، في افتتاحيتها الجمعة: "تبقى الحقيقة أنه إذا غزا دونالد ترامب نصف الناخبين الأمريكيين، فسيكون ذلك مع الكثير من الديماغوجية القومية والتوترات الدائمة وازدراء المؤسسات والأكاذيب الصارخة. هذه أيضاً ترامبية: أسلوب يتردد صداها خارج الحدود الأمريكية اليوم". وهنا خطورة أن يكون على رأس بلد مثل أمريكا أمثال ترامب. لقد جعل العالم أقل إنسانية والتزاما، وأكثر توحشا وتطرفا وصدامية. شعبويٌ وتاجر انتهازي مهووس بالصفقات، برتبة رئيس، تحت سلطته مقدرات هائلة تصرّف فيها بقدر كبير من التنطّع والعدوانية والاستخفاف. ترامب كان نتاج سياقٍ عام، اتسم بالشعبوية وصعود الخطابات اليمينية المتطرفة، والانغلاقية، لكنه وهو يخرج من رحِمها منحها زخما معتبرا وطوّر في جيناتها إلى مزيد من التشوّه. خسر ترامب الانتخابات، لكنه نجح في تثبيت "الترامبية" في المجتمع الأمريكي، إذ ستستمر هادرةً وقد عبّرت عن نفسها رقما مهولا من الأصوات لرئيس يجدُ صعوبة في استيعاب الخسارة، وجمهور ترامبي متعصّب يطوّق مراكز الاقتراع مُمْتشقا المسدسات والرشاشات!!! نعم هذا يحدث في أمريكا، حيث بذور حرب أهلية تجري تغذيتها باستمرار بمثل خطابات ترامب، ويتحسّس كثيرٌ من العقلاء رؤوسهم من أن تتخطّفهم في أية لحظة في مجتمع جامحٍ أفرط في التسلّح، وفي الاستقطاب. فترة ترامب كانت سلسلة قطائع وهزّات بصمها الرئيس الجمهوري بكثير من شخصيته في العلاقة بالعالم، ولا يُتصوّر أن يتمكّن بايدن، أو أي أحد، من التخلص من التركة الثقيلة بسهولة، حتى وإن قال، في "خطاب النصر" السبت، إنه سيعمل لجعل أمريكا "دولة محترمة في العالم من جديد"، في تعبير شديد التلخيص والدلالة على ما هي عليه أمريكا اليوم في العالم، والنظرة التي رسّخها ترامب عنها، والتي لم تكن دوما طيبة على كل حال، لكنها صارت أكثر سوءا وإثارة للازدراء. كانت ولايةً هادرةً وصاخبة وشديدة الاضطراب وفضائحية، فرض فيها ترامب إيقاعه على الداخل والخارج، الذي سايسه وتحاشى صدامه، وأذعن لشطحاته، وانتظر متعجّلا رحيله. أربع سنوات حطّم فيها الكثير من القواعد، ومزّق الكثير من الاتفاقات، وحقّر، بشكل غير مسبوق ومثير للدهشة، المؤسسات الدولية، واستخفّ بحلفائه وخصومه على السواء، وتسلّط على شعوب، كما فعل بالفلسطينيين. ولاية ترامب كان حالة انفلات، ولحظة تطرّف، وتعبيرا صارخا عن "انتقال السلطة من السياسي إلى ربّ العمل" الذي صار يجيد أكثر لغة السياسيين وفذلكاتهم، ويتماهى معهم، ليتقاسم المجالات أولا، قبل أن يستحوذ عليه. هذه "الحالة الترامبية" وجدت صداها في كثير من الدول، حيت قضمت الخطابات الشعبوية واليمينية المتطرفة مساحات مجتمعية أكثر، وحققت انتصارات انتخابية أثارت المخاوف من تحولات عميقة جارية في كثير من المجتمعات، التي طالما وصفت بالديمقراطية، قبل أن تكتشف أنها تعيش استعصاءات مستجدّة مثيرة للفزع في عالم متسارعٍ يتحوّل بشكل عنيف وهدّام، ولا يترّك الفرصة لالتقاط الأنفاس، وصار أكثر استماعا وإيمانا بالمجانين، الذين أصبح بإمكانهم أن يحصلوا، بكل ديمقراطية وبأصوات "الهائجين"، على صفة "فخامة الرئيس".