تابع العالم حفلة الانتخابات الأمريكية، حيث صراع الفيل والحمار التقليدي، التي انتهت بفوز بايدن، وعدم اعتراف ترامب بالسقوط، ولسان حاله يصيح "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". نوبة "الإنكار" التي دخلها ترامب، ربما قد تكون صادقة هذه المرة، بخلاف أكاذيبه اليومية، فالرجل يجسد بامتياز عصر "ما بعد الحقيقة" Post-Truth ، وهو المفهوم الذي ابتدعه الكاتب المسرحي ستيف ثيسش، ودخل معجم أكسفورد منذ أربع سنوات للدلالة على سلطة الأكاذيب والإشاعات والأخبار الزائفة في بناء السياسات وترويض الشعوب والتلاعب بالعقول. هذه المرة حين يشكك ترامب في نتائج الانتخابات، فهو صادق، ليس لأن الحقيقة هي كذلك، بل لأنه مدفوعا بجنون العظمة، وصل إلى حالة تماه مع السلطة، أشبه بالاتحاد والحلول في عالم الصوفية، فلا يتصور نفسه خارجها إلا بالموت "الموت الإكلينيكي، أو الموت القانوني بعد نهاية ولاية ثانية"، حالة أشبه بتلك التي وصفها بارغاس يوسا في روايته "حفلة التيس" التي تحكي عن ديكتاتور جمهورية الدومينيكان.. جوديث باتلر Judith Butler واحدة من أبرز منظري النقد مابعد الكولونيالي والنسوية، والمنحازة لليسار الأمريكي الجديد الذي يضع مسافة بينه وبين نخبة الحزب الديمقراطي التقليدية التي ينتمي إليها بايدن، والتي كانت مساندة في انتخابات اختيار مرشح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة للثنائي بيرني ساندرز وإليزابيث وارين، وجدت نفسها متحمسة ليس لفوز بايدن ولكن لقطع الطريق أمام عودة ترامب، وهو حال كثيرين ليس في أمريكا فقط، بل في العالم. ذكرني موقفها بملصق طريف أثناء حملة انتخابية سابقة للحزب الاشتراكي الديمقراطي بألمانيا، حيث عددوا ما يعتبرونها أسبابا مقنعة لانتخابهم، وفي الأخير كتبوا: إذا لم يقنعك كل ماسبق، فتذكر أن خصمنا هو هيلموت كول، وكان كول مرشح الحزب المسيحي الديمقراطي، طبعا لا قياس مع وجود الفوارق بين كول وترامب. تقول جوديث باتلر إن دعوة ترامب قبل إعلان النتائج للتوقف عن عد الأصوات شبيه بدعوته سابقا للتوقف عن الاستمرار في إجراء اختبارات كورونا، وتحلل ذلك انطلاقا من التركيبة النفسية لترامب القائمة على إنكار الواقع، ولذلك فهو يخاف إن استمر عد الأوراق أن تتحول الحقيقة إلى واقع، أي أن تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، كما من شأن الاستمرار في إجراء الاختبارات حول كورونا تقويض مزاعمه حول خطورة الجائحة، وبالمناسبة لجوديث باتلر كتاب مهم تفكك فيه السلطة تفكيكا من زاوية التحليل النفسي وتحليل الخطاب، اسمه "الحياة النفسية للسلطة"، وفيه تأثير واضح لميشيل فوكو. إن خطورة الترامبية في كونها أصبحت ملهمة لحركات اليمين الفاشي، فهذا اليمين هو في سيرورة صاعدة منذ سنوات، وإذا كانت الأزمة الاقتصادية 2008 أمدته بما يسميه عالم الاجتماع الأمريكي/الإيراني بهروز غاماري بالحدث المسرع للدينامية، فإن وصول ترامب إلى رئاسة أقوى دولة في العالم مثل لحظة الدفع الثانية، ويمكن التمثيل لذاك بوصول هذا اليمين الفاشي للحكم مع بولسونارو في البرازيل، وأوربان في المجر، وناريندرا مودي في الهند، ولوكاشينكو في بيلاروسيا (هذا الأخير مثل ترامب يرفض انتقال السلطة بعد هزيمته)، وتصاعد قوة الحركات الفاشية الجديدة في ألمانيا (البديل من أجل ألمانيا) وفرنسا (الجبهة الوطنية) وإيطاليا (الرابطة) وإسبانيا (فوكس)، وخطورة هؤلاء الفاشييست الأوروبيين والأمريكيين على السلم العالمي أكبر من خطورة باقي الحركات المتطرفة في العالم، لأن لها إمكانية الوصول للسلطة في دول متقدمة اقتصاديا وتسليحيا. لا يريد ترامب المغادرة إلا بعد أن يقيم الشكوك في الانتخابات والمؤسسات والإعلام والجامعات والعلم، في صنيع أشبه بالمرسوم الذي أصدره هتلر حين اقتربت نهايته، والذي سماه "الأمر المتعلق بإجراءات تدمير أراضي الرايخ"، واشتهر بعد رحيله بمرسوم "نيرون" في إحالة إلى الإمبراطور الروماني الذي أحرق روما، وهي الأحداث التي تختصر مقولة: سقط الحاكم، فليسقط النظام. تقيم حنة أرندت في كتابها "أصول التوتاليتارية" فروقات بين الدكتاتورية والفاشية (كلاهما شر) باعتبار الفاشية تسلط إيديولوجا عنصرية قائمة على العرقية، أما الديكتاتورية فهي تسلط طغمة حاكمة مسنودة بالعسكر من أجل الاستيلاء على الثروات، وتكون الإيديولوجيا سواء الدينية أو القومية أو الاشتراكية أو الرأسمالية مجرد غطاء لإخفاء الاستيلاء علي السلطة لخدمة طبقة أوليغارشية. لكن باتلر تعتبر أنه من الأجدى إعادة النظر في هذا الفصل، حيث لم تعد الفروقات واضحة بين النزوعين الفاشي والدكتاتوري حاليا، وتقول إن استمرار المؤسسات العسكرية في الغرب في الولاء للدولة- الأمة لحد الآن هو الذي لم يسمح بزواج الفاشية والدكتاتورية، ولكن التهديد يبقى قائما، خصوصا أنها ترى أن الدولة تحولت من تأمين الوحدة باسم الأمة، نحو أداة قمع باسم السلطة. تقيم الفاشية اليمينية اختراقات خطابية في لغة زعماء العالم، فالانعزالية التي تحدث عنها ماكرون كانت هي نفس المفهوم الذي وظفته النازية الألمانية لتأليب الرأي العام ضد اليهود، وحديث ترامب عن اللحظة الأمريكيةالجديدة هي استعادة لمقولة أحد أقطاب اليمين المتشدد الأمريكي أواسط القرن 19 "تشارلز كرومر"، وشعار ترامب: "اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى" هو المعادل الموضوع لحديث موسوليني المتكرر عن أن لا أسطورة حقيقية إلا أسطورة عظمة الأمة الإيطالية. إن الفاشية الجديدة تمثل تهديدا لأي انتقالات ديمقراطية محتملة، ذلك أنها حليفة للدكتاتوريات، كما أنها تستغل تصاعد الخطابات الشعبوية، لكنها تحولها من وظيفة استعادة الأغلبيات الصامتة لصوتها الذي سرقته ديمقراطيات تمثيلية آثرت أن تكون خادمة لرؤوس الأموال، إلى وظيفة التعبئة باسم المواطن العادي ليس ضد النخبة فقط، بل ضد العلم والمعرفة كذلك. وتظل الترامبية استعادة رجعية للآباء المؤسسين الذين بنوا أمريكا على الحذر من السود والمهاجرين، وتهميش النساء. إنه القلق الرجالي الذي تحدث عنه لييست في "تطرف الوسط".