على الأقل اهتمّ ماكرون، المعروف بغطرسته ولغته الصِدامية وتعاليه في الداخل والخارج، بالتحدث إلى عالم عربي وإسلامي يراه كثيرٌ من حكّامه غير جديرٍ بالتحدث إليه عند الأزمات. ربما فعلتها برئيسٍ يُعتبر "مرشحَ عالم المال والأعمال" الضغوطُ الاقتصادية، والتي كان يمكن أن تعمّقها المقاطعة للمنتجات الفرنسية، وأيضا العمليات الإرهابية التي استهدفت مدنيين في عدد من المدن الفرنسية، والإرهاب المضاد الذي استهدف مسلمين في باريس وغيرها، وخشية انفلات الأمور قبيل انتخابات يدخلُها مثقلا بما خلفته كورونا، فاختار "الجزيرة" القطرية، القريبة من تركيا التي "سخّن الطّرح" رئيسها أردوغان ضد ماكرون، ليخاطب العام الإسلامي والعربي الغاضب عن حقّ من تصريحاته حول الإسلام. حرِص ماكرون على جبرِ الخواطر بعدما انكسرت الكثير من الجِرار بين يدي خطابه أول الأمر عن الإسلام وطيلة أسابيع من "صعود الجبل" بشأن الرسوم، فكتب بالعربية، في حساباته في شبكات التواصل الاجتماعي، أكثر ممّا فعل سابقا، وزاد في التوضيح واستفاض حتى قال الظرفاء "إنه يكاد يعلن إسلامه"، لكنه بقي في موقعِ المتشبث بالحق في التعبير كما يتصوّره، ويراه عالمٌ إسلامي "إساءات". لم يكن منتظرا أن "يرتدّ" ماكرون عن الشعارات المؤسِّسة للجمهورية، ولا عن فهم صار أكثر تشدّدا لهذه الشعارات (في إطار مناكفة طائشة مع تيار يميني صاعد ومتوتّب)، وهو يدفع عن الدولة، متأخرا، "جريرة" تبني الرسومات التي قالها إنها "خاصّة"، لكنه حفظ لها حقها في الوجود تحت بند حرية التعبير. ولا يمكن تصوّر أن يصدر في مخاطبة الخارج كلامٌ آخر عن رئيس يُدرك أن الداخل يمكن أن ينقلب عليه، مادام يستهويه خطابٌ أكثر حدّية وصداما، ومادام هناك محرّضون على أكثر من صعيد ورعاةٌ للخصومات مستعدون لإسماعه ما يريد في قنواتٍ ضاجّة بالنقاش المتوتّر. كان ماكرون، كما كل الحكومات الشبيهة، "مهووسا باللحظة الراهنة المفتقرة إلى التاريخ" مثلما كتب كلود جوليان، في "لوموند ديبلوماتيك" قبل 25 سنة، عن "عالم التطرف"، حيث أشار إلى أن هذه الحكومات "لا تخصص إلا وقتا زهيدا للتفكير والتوقّع، ولا تلتفت إلا قليلا إلى التفاقم البطيء للأزمات أو حينما تكون على وشك الانفجار، لتكتشف بذهول أنها تجاهلت كل إمكانية لصياغة سياسة وقائية. وهكذا ترتجل بعجلة "تدبيرا للأزمة" غالبا ما تكون نتائجه مضادة للهدف المحدد لها". خاطبَ ماكرون عالما عربيا وإسلاميا ليس من ناخبيه، وإن كان هذا الجزءُ من العالم يؤثر على كثير من مصالح ناخبيه وأمنهم. تحدث وكتب بلغة من يعتقد أنهم فهموه خطأً، وكاد يردّد العبارة الشهير لزين العابدين بن علي: "أنا فهمتكم"، وقولة حسني مبارك: "لم أكن أنتوي..". ماكرون اقتطع من وقته ليتحدث عمّا يقصده، أو لطرح قصدٍ جديد لما قصده أول الأمر، وليوضح، وليبرر، وليمرّر أيضا المغالطات، بغرض تهدئة روْع غاضبين دفَعَ بأنهم لم يفهموه جيدا، والذين قلّما يلتفت حكامهم ليخاطبوهم إلا عندما "تدْلَهمُ المُدْلهمّات" التي تكاد تجرف كراسيهم جرفا. ومتى كان الحاكم العربي مستعدا ليبرّر، فضلا عن أن يعتذر؟. الرئيس الفرنسي عانى على امتداد أيام طويلة، مثلما هدده الرئيس التركي قبل أسابيع وهو يخاطبه بقوله: "ستعاني الكثير من المتاعب معي" ذات سجال حادِّ صار مألوفا بين الرئيسين. غير أن كلام أردوغان حينها نقل السّجال إلى مستوى الخصومة الشخصية، وظهر أنها أبعدُ ما يكون عن صراع مصالح بين رئيسي دولتين. ماكرون لم يتأخر كثيرا في منح أردوغان ما كان يحتاجه ل"إحداث المتاعب" لساكن الإليزي، وأمدّه بكل أسباب "التهييج"، ودخل مربّع العمليات في الملعب الذي يجيد الرئيس التركي المناورة فيه (المشاعر الدينية)، لكن هذه المرّة بحسابات السياسة غير البعيدة عمّا يجري تحديدا في شرق المتوسط ومعركة حقول الغاز بين تركيا واليونان، حيث تتموقع فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي في وضعية الأكثر تشددا ضد أنقرة، وفي ليبيا أيضا، حيث تدعم باريس الجنرال حفتر، الذي صارت تعتبره تركيا عدوّا، وقدمت كل الدعم لحكومة السراج لإنهائه، ومعه إنهاء سياسات ماكرون في ليبيا التي تلتقي مع "أعداء" آخرين لأنقرة، وتحديدا مصر والإمارات. ماكرون في خرجته عرف من يجبُ أن يخاطب، لذلك اختار "الجزيرة" المملوكة لقطر، التي تعيش قصة "غرام متبادل" مع تركيا صارت أكثر حميمية بعد الأزمة الخليجية، ليُسمع صوته ل"الشارع" الغاضب، الذي يستمع ل"الجزيرة"، والمُفْتتن ب"فتوحات" أردوغان الخطابية، وليبعثَ برسائل تهدئة تُقرأ عناوينها الفاقعة ابتداء من اختيار القناة، إلى مضمون الرسالة، الذي حاولت إمساك العصا من الوسط ب"نصف اعتذار" ارتدى لبوس التوضيح. ماكرون خاطب العالم الإسلامي بهدوء (غير مألوف فيه إلا أمام "إهانات" ترامب) وقد وجد نفسه في قلب عاصفة (توقعها أو لم يتوقعها. لا يهمّ)، وهو الذي لم يتردّد قبل أسابيع في تقريع ساسة لبنان بأسلوب أقلّ ما يقال عنه إنه افتقد للباقة وانتهك بشكل مثير للدهشة سيادة بلد "مستقل"، وكما قرّع صحافيا فرنسيا شهيرا أمام العالم بسبب تقرير في هجوم خاطف لم يستوعب الصحافي معه الوضع إلا وقد غادر الرئيس مُغاضبا، وأيضا استعماله لغة صدامية في مواجهة احتجاجات "السترات الصفراء"، وغيرها كثيرٌ عن رئيس لا يتردّد في الإساءات، معبّرا بشكل فاضح عن "مرض فرنسا" كما كتب ألان بيرفيت، الباحث وعضو الأكاديمية الفرنسية السابق المقرّب من شارل ديغول.