سلاح المقاطعة سلاح رادع فعلا. وقد جرب المغاربة فعاليته قبل أكثر من سنتين، عندما وظفوه ضد إحدى الشركات الفرنسية الموجودة على التراب الوطني، الخاصة بإنتاج الحليب ومشتقاته، وكذا بعض الشركات المغربية الأخرى، للأسباب التي يعرفها الجميع. إذ أثبت هذا السلاح فعاليته، رغم أن جهات حكومية وحزبية، البعض منها من العدالة والتنمية، تكالبت على المقاطعين بطريقة تنم عن أن الانبطاح أمام الاستعمار مازال قائما إلى يومنا هذا. أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تمتنع عن استهلاك بضائعها؛ ألا تقتني سياراتها، وألا ترتاد أسواقها الممتازة، وألا تشتري ملابسها المصدرة إلينا، وأن تكف عن استعمال عطورها وباقي موادها التجميلية... أن تقاطع فرنسا.. يعني أيضا ألا تُقبِل على شركاتها المستثمرة هنا؛ أي أن تتوقف عن استعمال «الترامواي» والقطار والطائرة؛ وألا تتداوى بأدويتها وعلاجاتها؛ وألا تقبل على أطبائها ومستشفياتها... أن تقاطع فرنسا.. معناه أن تتوقف نهائيا، وبالضرورة، عن الإقبال على سفارتها وقنصلياتها وباقي هيئاتها؛ وألا تطلب تأشيرة للسفر إلى عاصمتها، وأن تطالب برحيل كل ممثليها وموظفيها هنا. أن تقاطع فرنسا.. لا يعني هذا فحسب. أن تقاطعها يعني أيضا أن تمتنع عن التكلم بلغتها، وأن تقاطع كل من يصر على تداولها أمامك. أن تقاطع فرنسا.. يعني ألا ترسل أبناءك إلى المعهد الثقافي الفرنسي أو مدارس البعثة الأخرى، أو إلى أي مدرسة تركز على تعليم الفرنسية فقط؛ وأن تتوقف عن تعليم أبنائك كل ما له صلة بالفرنسية اعتقادا منك أنها منجاته من البطالة، وأنها طريقه إلى المناصب السامية؛ وأن تستهجن قرارات الآباء الراغبين في أن يدرس أبناؤهم في الجامعات الفرنسية. أن تقاطع فرنسا.. يقصد به، من جهة أخرى، أن تتصدى لكل القرارات الحكومية الأخيرة التي عززت مكانة الفرنسية في المقررات الدراسية؛ وأن تناضل من أجل إلغاء البرامج الفرنسية من قنوات بلادك وإذاعاتها ووكالتها الرسمية وجرائدها ومجلاتها وباقي صحافتها ومنشوراتها... أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تمتنع عن تسلم فواتيرك وضرائبك وتأميناتك المكتوبة بالفرنسية، وأن ترجعها إلى الحكومة لكي تحررها بلغاتك الوطنية؛ وأن تلغي مشاهداتك برامج القنوات الفرنسية وقراءتك الجرائد والمجلات الفرنسية، لا لأنها تسب الرسول الكريم فحسب، بل لأنها تفرغك من ذاتيتك وهويتك وثقافتك، وتمنعك من أن تكون أنت... أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تطالب بإزالة كل الإشهارات والإعلانات واللافتات المكتوبة بالفرنسية، تلك المعلقة على واجهات المحلات والدكاكين والمقاهي والمطاعم والشركات، الخ. أن تقاطع فرنسا.. يعني كذلك ألا تصوت على النواب والمستشارين والوزراء الذين يطالبون ضيوفهم بالتكلم بالفرنسية والامتناع عن الحديث بالعربية؛ وألا تصوت على الأحزاب التي تحرر بلاغاتها ومنشوراتها بالفرنسية؛ وألا تبدي اهتماما بالمؤسسات المحلية التي تدبج تقاريرها ومراسلاتها وبياناتها وحصيلتها السنوية بالفرنسية... أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تكون قادرا على دفع جميع المغاربة المقيمين فيها إلى التخلي عن وظائفهم وامتيازاتهم وبيع ممتلكاتهم واستثماراتهم هناك؛ وأن تستطيع إقناعهم بالتنازل عن جنسياتهم والعودة إلى أرض الوطن. ليس المقصود بهذا القول أن المقاطعة مستحيلة، وأن مواجهة سطوة فرنسا وعجرفتها غير ممكنة البتة؛ إنما المراد تأكيد أن المقاطعة مسار طويل يحتاج إلى عمل إبداعي ووقت ونفس. كان المقاومون المغاربيون مؤمنين بأن فرنسا لن تغادر «مستعمراتها» إلا بعد أن تبيض بيضها وتفقس إمبرياليتها الجديدة التي ستتكفل بها بعدها بورجوازية استعمارية محلية جديدة لا تدين للوطن الجديد بشيء، وإنما تكون غايتها خدمة المصالح الاستعمارية القديمة. من هنا، تعني مقاطعة فرنسا أنك واعٍ بأصل هذه المشكلة. أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تنتج اقتصادك؛ أي أن تصنع سيارتك وقطارك وطائرتك؛ وأن تنتج دواءك وعلاجاتك؛ وأن تبتكر آلاتك وحواسيبك وباقي أجهزتك الإلكترونية والتكنولوجية المساعدة على الصناعات؛ وألا تستورد هاتفك المحمول وغسالتك وأواني مطبخك؛ وأن تعتمد كلية على عقولك المحلية لدفع عربة الإنتاج والاقتصاد إلى الأمام. أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تعزز لغاتك الوطنية في البيت والإدارة والمدرسة والإعلام والشارع؛ أي أن تجعل قراراتك وضرائبك ومراسلاتك وتقاريرك وباقي أشكال كتاباتك ممهورة بالعربية والأمازيغية. أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تبني مدرستك الوطنية، وأن تجعلها قوية ومنتجة وقادرة على تخريج الإداريين والمهندسين والصناع الأكفاء، والكتاب الأدباء والمفكرين والفنانين النبهاء النوابغ، والسياسيين والنواب والوزراء المعتزين المتشبثين بوطنيتهم. أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تكون قادرا على إشراك جميع المغاربة في مشروع وطني كبير، يجعلهم في غنى عن شرور الاغتراب في البلدان الأخرى؛ وأن تسخر جميع خيراتك لخدمة أبناء جلدتك؛ وأن تصير مستقلا استقلالا فعليا بما لديك، ومستغنيا بذاتك عن الآخرين. أن تقاطع فرنسا.. يعني أن تصبح غالبا، لا مغلوبا، كما قال ابن خلدون. وهذا يقتضي معركة داخلية طويلة الأمد، لكنها ليست مستحيلة على الإطلاق.