سجل المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره السنوي الأخير عن سنة 2019، وجود هوة فعلية بين الدستور والقوانين والمعاهدات التي صادق عليها المغرب من جهة، والواقع المعيش في مجال حقوق الإنسان من جهة أخرى. ما تفسيرك؟ نتفق على ما خلص إليه التقرير في هذا الجانب من الأمور، إذ بالفعل هناك معانات سواء بالنسبة إلى الحقوقيين أو بالنسبة إلى المواطنين. ما نسجله أيضا هو أن هناك تناقضا بين مقتضيات الدستور والنصوص التشريعية والتنظيمية، وممارسات السلطات، خاصة السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. أما على مستوى الحق في التنظيم مثلا، فقد انتقلت السلطات من انتقاء للجمعيات على المقاس، والاعتراض على الجمعيات بالاسم، إلى الاعتراض على الأشخاص غير المرغوب فيهم من طرف السلطات أو الذين يخالفون في آرائهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية والحقوقية السلطة السياسية القائمة، رغم أن الفصل الخامس من القانون المنظم لتأسيس الجمعيات واضح وصريح. فالسلطات اليوم، عممت وصفتها المتعلقة بالمقاربة الأمنية لتدبير الشأن العام على مجالات أخرى، حيث انتقلت بهذه المقاربة، كذلك، للتحكم في الحياة الجمعوية وفرضها كأسلوب عليها. الشيء عينه، يحدث بخصوص المنع المستمر لسلطات وزارة الداخلية للعديد من اللقاءات والاجتماعات في الأماكن العمومية وحرمان جمعيات مؤسسة بالقانون من استعمال الفضاءات العمومية، إذ كثيرا ما تتدخل القوات العمومية بالاستعمال المفرط للقوة في فض التظاهرات والاحتجاجات السلمية في العديد من المناطق مما يشكل مسا بالسلامة البدنية، وهذه الأمور تابعتها يوميتكم في العديد من الحالات. اليوم، وأمام صمت الجهات المالكة لسلطة القرار، يتم توظيف القضاء بشكل واضح في تصفية الحسابات مع المعارضين من النشطاء السياسيين والحقوقيين النقابيين والمدنيين، والصحافيين، حيث جرى إصدار أحكام بالسجن لمدد طويلة في حق مواطنين مغاربة طالبوا بتحقيق مطالب اجتماعية واقتصادية بمنطقة الريف وجرادة وزاكورة وأولاد الشيخ بقلعة السراغنة وغيرها.. ومتابعة صحافيين بمقتضيات القانون الجنائي كما وقع للصحافيين الأربعة بسبب شكاية كيدية موجهة ضدهم من رئيس مجلس المستشارين، واستبعاد قانون الصحافة والنشر. بل إن صحافيين موجودين اليوم في السجن بتهم ملفقة ويقضون عقوبات جائرة منهم توفيق بوعشرين، الذي اعتبر فريق العمل الأممي المعني بالاعتقال التعسفي اعتقاله تعسفيا وطالب الدولة بضرورة إطلاق سراحه فورا وتعويضه عن الأضرار التي لحقت به، والصحافيين سليمان الريسوني وعمر الراضي. إضافة إلى العقوبة الظالمة التي قضاها الصحافي حميد المهداوي لمدة ثلاث سنوات بتهم سريالية. ما مدى ارتباط الوضع الحقوقي بالمناخ السياسي والمؤسساتي العام في الدولة؟ المناخ السياسي والمؤسساتي العام يثير اليوم قلقا كبيرا بسبب عدم وضوح الرؤية على مستوى الفصل الواضح بين السلط، وخاصة بين المؤسسة الملكية والسلطة التنفيذية، وغياب رقابة حقيقية للسلطة التشريعية على الجهاز التنفيذي، وخاصة بالنسبة إلى بعض الوزارات التي تصنف ضمن خانة مربع السيادة كالفلاحة والخارجية والداخلية. ومن الطبيعي جدا أن ينعكس ذلك على الوضع الحقوقي، فالدولة أعلنت عن مخططها في مواجهة الجمعيات الحقوقية منذ تصريحات وزير الداخلية السابق محمد حصاد التي هاجم فيها الجمعيات وخاصة الحقوقية، والتي جاءت في سياق جوابه عن أسئلة أمام مجلس النواب خلال جلسة الأسئلة الشفوية ليوم الثلاثاء 15 يوليوز 2014، بشأن التهديدات الإرهابية. واليوم، يبدو أن هناك توجها صريحا في المغرب نحو مزيد من التسلط والاعتداء العلني والصريح على الحقوق والحريات تحت يافطة "هبة الدولة". وهنا أؤكد أننا نعيش انتكاسة على مستوى مصادرة الحق في التجمع والتنظيم واستهداف حرية والتعبير، وتوظيف القضاء في تصفية الحسابات بوتيرة تعود بنا إلى سنوات العهد البائد التي خلفت تركة سيئة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إن ما يحدث في نظري اعتداء واضح على القانون بطريقة الاستقواء والتحكم. يذهب البعض أن المغرب تأثر، أيضا، بالمد التراجعي في حقوق الإنسان نتيجة الاحتباس الديمقراطي الذي يتسم بعودة السلطوية إلى العالم، إلى أي حد أن هذا الاستنتاج صحيح؟ من المؤكد أن هذا التراجع في المغرب هو نتيجة إرادة سياسية حقيقية تحاول الدولة من خلالها استرجاع الهبة التي تعتقد أنها افتقدتها بعد انطلاق مسيرات 20 فبراير 2011. وتبين ذلك بشكل ملموس مع محاكمة العديد من الشباب الذين قادوا حَراك الريف، حيث تبين أنه كان هناك إصرار من طرف الدولة على رفع منسوب الردع العام تجاه كل من يحتج أو يعارض أو يطالب بالحقوق، وبإلزام الدولة بضرورة الاستجابة لمطالبهم الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. ما وقع بصم من جديد على توظيف القضاء في تحقيق هذه الرغبة المبطنة للدولة في تصفية الحسابات مع كل المعارضين ووضعهم في السجن من أجل ثنيهم على عدم الاستمرار في النضال والمعارضة والاحتجاج. في السياق عينه، هل يستقيم تفسير التراجع الحقوقي بالعامل الدولي ووجود ترامب في البيت الأبيض؟ بالفعل هناك استثمار لهذا التوجه العالمي بقيادة ترامب لأمريكا وجونسون لبريطانيا وماكرون لفرنسا، للرفع من وتيرة الإجهاز على المكتسبات التي تحققت في المجال الحقوقي، وهذا لا يخص المغرب بمفرده، بل يشمل دولا أخرى في العالم العربي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. تتقاطر تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تنتقد وضعية حقوق الإنسان في المغرب، خاصة في الآونة الأخيرة، فيما المسؤولون لا ينكرون الاختلالات الموجودة، غير أنهم يبدون "استغرابهم" من طبيعة هذه الانتقادات ويشككون في مصادرها، هل بهذه الطريقة يمكن تعزيز الحقوق والحريات ببلدنا؟ صحيح أن الدولة المغربية في كثير من الأحيان لا تتعامل بالجدية المطلوبة مع مثل هذه التقارير، وتتضايق من مضامينها التي تنقد وضعية حقوق الإنسان والحريات العامة الجماعية والفردية، في حين أن المطلوب هو العكس، أي من المفروض أن تأخذ الحكومة بعين الاعتبار ملاحظات هذه المنظمات لتصحيح الأخطاء، وتدارك الثغرات بخصوص السياسات العمومية المتبعة في مجال الحماية وتعزيز القدرات المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان والحريات. على ذكر المنظمات الحقوقية الدولية، نستحضر موقف الحكومة من تقرير "أمنيستي" الأخير، ومقارنته مع موقفها من تقرير سنة 2014 الذي تحدث عن التعذيب، ألا تلاحظ أن الرد هذه المرة كان "انفعاليا جدا" عكس السنوات السابقة. في رأيك ما الذي تغير في ست سنوات؟ ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تعاملت فيها الدولة بخطاب المظلومية، فعندما تكون التقارير في مصلحتها، تُسخر كل الإمكانيات الإعلامية العمومية والموالية للدعاية لها، وعندما تنتقدها هذه المنظمات أو تثير قضايا حقوقية شائكة كما وقع بالنسبة إلى تقرير أمنيستي، تشحذ الجهود والإمكانيات لتكذيب ذلك، والإدعاء بتعرضها لحملات تسيء إليها. ويبدو أن الدولة تخسر كثيرا في مواجهات من هذا النوع، فمعركة اليوم جعلت الحكومة تتواجه مع الجمعيات الحقوقية التي أعلنت تضامنها مع منظمة العفو الدولية، وأصدرت شخصيات بيانات الدعم لما ورد في تقرير المنظمة. لهذا، فالحكومة اليوم مطالبة بكشف الحقيقة كاملة بخصوص هذا الملف. ألا يدفعنا هذا السياق إلى نقاش توصيات الإنصاف والمصالحة التي تأخر المغرب في تنزيلها، خصوصا ما يتعلق بالحكامة الأمنية؟ لقد كان من المنتظر أن يساهم دستور 1 يوليوز 2011 – الذي جاء في سياق الحراك المغربي من أجل إرساء مبادئ الحرية والكرامة – في بناء أسس واضحة للعدالة الاجتماعية، والاستجابة لمطالب الشعب المغربي بتسريع وتيرة الإصلاحات السياسية، والتي جدد المطالبة بها شباب حركة 20 فبراير، وهي الحركة التي انخرطت فيها مكونات المجتمع الحقوقية والنقابية والسياسية الديمقراطية. وبالفعل حتى وإن كانت لدينا مجموعة من المؤاخذات على الوثيقة الدستورية، بكون الدستور الحالي لم يضع حدا لإشكالية توزيع السلط، ولم يقر بشكل واضح بدولة المؤسسات العادلة، فإننا نعتبر أن دستور 2011 تضمن العديد من المقتضيات التي تخدم قضايا حقوق الإنسان، حيث خصص الباب الثاني للحقوق والحريات من الفصل 19 إلى 40، ووصل عدد الإحالات على مستوى حقوق الإنسان إلى حوالي 60 إحالة، كما تم توظيف مفهوم "الحريات" 42 مرة في الدستور الجديد، وتحدث في فصول متعددة عن الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان. لكن الواقع مع كامل الأسف يؤكد أن ماكينة السلطة السياسية مازالت تشتغل ببنزين دستور 1996، حيث تبتعد الممارسة عن النفحة الحقوقية التي أشدنا بها في حينها، وتحرص السلطات العمومية على اعتماد مقاربة بائدة ضمن سياستها العمومية في مجال حقوق الإنسان. ويمكن التأكيد في معرض الإجابة عن جزء من السؤال أن الدولة تحاول نهج تعزيز المقاربة الأمنية والإبقاء عليها، ولا تستحضر نهائيا توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ومن ضمنها تلك التي لها علاقة بالحكامة الأمنية وبالأشخاص المكلفين بإنفاذ القانون. نلاحظ مؤخرا خفوت دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان في لعب دور الوساطة لحلّ ملف "حراك الرّيف" الذي دخلَ مرحلة جديدة من التّعاطي الرّسمي بعد حصول عدد من المعتقلين على عفو ملكي ما يمكن اعتباره توجها جديدا للدولة من أجل التخلص من هذا الملف الذي أرقها. ما السبب في نظرك؟ شخصيا، لا أومن بأن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وخاصة خلال الولاية الحالية أن يكون لها دور في إيجاد حلول أو اقتراح مخارج لقضية الريف. فالمجلس هو من أجل التأثيث ليس إلا. الملف في نظري أكبر من المجلس الوطني، لذلك أدعو إلى طيه بعفو ملكي شامل عن كل المعتقلين بمن فيهم الصحافيين توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي، واتخاذ مبادرات جريئة وشجاعة لتنمية منطقة الريف، والمناطق الأخرى ونهج سياسة عمومية تتوخى تحقيق عدالة اجتماعية ومجالية حقيقية، ونهج سياسة عمومية ترسخ آليات المساءلة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب. محمد زهاري.. رئيس سابق للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان