احتضن المغرب قبل أيام بالرباط لقاء جديدا لطرفي الصراع في ليبيا؛ عقيلة صالح رئيس مجلس النواب في طبرق، وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة في طرابلس. زيارة الرجلين للرباط، بدعوة من المغرب، خطوة مهمة في حد ذاتها، لأنها مؤشر على اقتناعهما بالحاجة إلى العودة إلى المسار السياسي، بعدما توهم الجنرال خليفة حفتر، بدعم دول في المنطقة ومن خارجها، أنه يستطيع حسم الأزمة عسكريا، فأعلن الهجوم على طرابلس في 4 أبريل 2019، وهو ما فشل فيه، بل إن خطوته لم تحقق شيئا لصالح ليبيا، سوى أنها أفسحت المجال أمام قوى إقليمية للتدخل عسكريا، ودفع الأزمة إلى حدّها الأقصى، ما يُعقد كل حل. لم يلتق الرجلان وجها لوجه حول طاولة واحدة، بسبب حدة الخلاف والخصومة بينهما، ولأن وراءهما هيئات سياسية وعسكرية، كل منها تفرض شروطا قبل أي لقاء وجها لوجه. القوى السياسية والعسكرية الداعمة لحكومة الوفاق في طرابلس المعترف بها دوليا تشترط أن يعتذر عقيلة صالح عن دعمه العلني والصريح للجنرال خليفة حفتر في الهجوم العسكري على طرابلس، وفي المقابل، كان صالح يرفض الجلوس إلى قيادات الإخوان المسلمين، ومنهم خالد البشري، وذهب إلى حدّ تبني وتكرار الموقف المصري من الجماعة، تماشيا مع موقف حفتر والمحور العربي الداعم له، وليس له اليوم إذا أراد حلا سياسيا سوى القبول بالإخوان وبغيرهم. يدرك الطرفان أن التنازلات لا مفر منها للتوصل إلى حل؛ لذلك، يعد اللقاء غير المباشر بين صالح والمشري لبنة أولى نحو تلطيف حدة الخصومة، وتجاوز مرحلة القطيعة التي فرضها الخيار العسكري الفاشل؛ كما أن تصريحات الطرفين، عقب الزيارة، توحي بأنه قد حصل اتفاق ضمني بينهما على أساس الشروع في حوار سياسي على أرضية الاتفاق السياسي المتمثل في اتفاق الصخيرات، نحو إعادة تشكيل المجلس الرئاسي، وهي الخلاصة التي أشار إليها كذلك وزير الخارجية والتعاون الإفريقي، ناصر بوريطة. لقد تحرك المغرب، بدافع سياسي وأخلاقي كذلك، في الوقت المناسب جدا، من أجل الإسهام في تسوية الأزمة الليبية، لأنه يدرك أن وقف إطلاق النار حول مدينة سرت منذ أزيد من شهر يُشكل فرصة لأطراف الصراع في ليبيا للعودة إلى طاولة الحوار، ولإعادة حسابات جديدة في ضوء التوازنات القائمة على الأرض، حيث التحشيد العسكري من الطرفين غرب وشرق سرت، وهي وضعية تشي بأن ليبيا توجد اليوم أمام طرق ثلاثة: الأول، يتمثل في العودة إلى الحل السياسي، وليس هناك بلد عربي أفضل من المغرب يمكنه أن يساعد الليبيين في بناء توافقات جديدة بينهم، بحكم خبرته في اتفاق الصخيرات، وقدرته على إدارة التناقضات الإقليمية والدولية، وبحكم وساطته وحياده المشهود له بهما، كونه على مسافة واحدة من طرفي الصراع، كما أن الأفق الذي يقترحه على الليبيين نابع من مصلحتهم الوطنية والإقليمية؛ أي دولة موحدة، بمؤسسات متوازنة، يسهم فيها كل الليبيين دون إقصاء. الثاني، الذهاب نحو حرب عسكرية، حطبها ليبيا والليبيون، لكن لحساب أطراف إقليمية ودولية، مستعدة للتمويل والتسليح، أي لتدمير ليبيا، وربما استنزاف دول مجاورة، خصوصا مصر وتونس والجزائر. إنه سيناريو مرعب، لكنه محتمل جدا، في حال جرى إفشال الحل السياسي مرة أخرى. الثالث: قد تعمل بعض القوى الإقليمية المتدخلة على تجميد الوضع الراهن، وتحويل مدينة سرت-الجفرة إلى خط فاصل بين طرفي الصراع، بمعنى دفع ليبيا إلى حالة «لا حرب – لا سلم»، وهو سيناريو سيئ بالنسبة إلى الشعب الليبي، لأنه قد يرسّخ الانقسام بين الأقاليم التاريخية الثلاثة (طرابلس، فزان، برقة)، ويطيل حالة اللااستقرار في ليبيا، كما في المنطقة كذلك. لا حاجة إلى القول، في ضوء التطورات الثلاثة الممكنة، أن الحل السياسي يبقى هو الأفضل، وهو ما نادى به المغرب منذ بداية الأزمة، بل سبق أن حذر الليبيين من أن الخيار العسكري قد يزيد الأزمة تعقيدا فقط، وهو ما حصل فعلا، حيث باتت ليبيا ساحة لتصفية حسابات في مناطق أخرى من الإقليم، وهو الخيار الذي يجعل اليوم من القوى الإقليمية والدولية العقبة الرئيسة أمام الحل السياسي، والذي يمكن أن يتغلب عليه الليبيون فقط إذا امتلكوا الإرادة القوية، واستطاعوا تحمّل ما هو صعب لتفويت الفرصة على الأسوأ.