وصلت الأزمة في ليبيا إلى مفترق طرق، وهي بحاجة إلى صوت عربي موحد. منذ شهر تقريبا، ترابط قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، والتي تدعمها تركيا عسكريا وأمنيا، على تخوم مدينة سرت الاستراتيجية. لقد تحولت سرت إلى حد فاصل بين معسكرين؛ معسكر قوات حكومة الوفاق مسنودة بتركيا، والتي تقول إنها لن تتراجع حتى تسيطر على المدينة، وقوات الجنرال حفتر التي تحشد للمعركة مسنودة بمصر التي أعلنت رسميا أن سرت والجفرة جزء من أمنها القومي، ما يبرر، من وجهة نظرها، التدخل عسكريا في ليبيا، إن اضطرت إلى ذلك. من المستبعد أن يمضي الطرفان، المصري والتركي، نحو المواجهة العسكرية، رغم التحريض الإماراتي على ذلك، لأن مصر أكبر من الرئيس عبد الفتاح السيسي في ما يخص قرار الحرب، ولأن مصر، بعد خيبة الهزيمة التي تكبدتها قوات الجنرال حفتر على أبواب طرابلس، تريد الاستدراك من خلال التهديد بالخيار العسكري للحصول على مكان لها حول طاولة المفاوضات لحماية مصالحها، وهي التي تربطها بليبيا حدود تزيد على 1200 كيلومتر. فضلا على أن القوى الكبرى، وخصوصا أمريكا، لن تسمح باندلاع حرب بينهما، وكلاهما دولتان حليفتان لها. لذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى أن مدينة سرت قد تتحول من نقطة مواجهة إلى مدينة للتلاقي والتفاوض، خصوصا أن بقية الدول المعنية بالملف الليبي، من خارج محوري المواجهة، تسعى إلى جمع طرفي الأزمة في ليبيا، فالأمريكيون، الذين غابوا عن الملف فترة، عادوا بقوة للإمساك به، حجتهم في ذلك منع الروس من التمركز في قاعدة الجفرة وسرت، حتى لا يشكل الروس بذلك حزاما عسكريا جديدا ضد حلف الأطلسي، وهي الخطوة التي عبّر «الناتو» رسميا عن قلقه وانزعاجه منها. ويبدو أن الهدف من وراء التحركات الأمريكية في ليبيا خلال هذا الأسبوع، سواء من لدن مسؤولي القيادة العسكرية في إفريقيا «أفريكوم» أو وزارة الخارجية الأمريكية، والتي توجت باتفاقات مع حكومة الوفاق الليبية، هو الحؤول دون الوجود الروسي في مدينة سرت المطلة على المتوسط، ومن أجل ذلك فأمريكا مضطرة إلى الدفع بطرفي الأزمة من الليبيين إلى البحث عن حل، وفي هذا السياق يجري الحديث عن مقترح أمريكي جديد للتسوية، قد تشرف إيطاليا على تنفيذه. لقد سبق لأمريكا أن لعبت دورا مؤثرا في اتفاق الصخيرات الذي احتضنه المغرب سنة 2015، لكن دورها ظل قاصرا، ولم تمض، مثلا، نحو إلزام أطرافه من الليبيين ودول الجوار بتنفيذ مقتضياته، وظلت تتفرج على دول عربية مثل الإمارات، وأوروبية مثل فرنسا في سعيها إلى إفشال اتفاق الصخيرات، وهو ما حصل عمليا، إلا أنه ظل الوثيقة/الغطاء الذي يوفر الشرعية لحكومة الوفاق وغيرها، واليوم، إذ تجرب أمريكا الإقدام على مبادرة جديدة، يُرجح أن تكون مع إيطاليا، فإن التساؤل الأساسي هو حول مدى قدرتها على الدفع بالتسوية في ليبيا إلى الأمام. لا شك أن الملف الليبي معقد جدا، وقد ازداد تعقيدا بعد التدخل التركي، ثم هزيمة الجنرال حفتر على أبواب طرابلس، ولا يبدو أن أمريكا يمكنها أن تفرض حلا في ليبيا، لعدة أسباب؛ فالعقلية الأمريكية مجبولة على منطق إدارة الأزمات وليس حلّها، كما أن القوى التي قد تعاكس الإرادة الأمريكية في ليبيا متعددة، منها روسياوتركياوفرنسا. ومع ذلك، يمكن الوصول إلى حل في حال اقتنعت أطراف الأزمة بالجلوس حول طاولة المفاوضات في سرت، خصوصا إذا امتلكت الدول العربية إرادتها المستقلة والمتضامنة في بلورة تصور موحد لتسوية الأزمة وحلها نهائيا. في هذا السياق، يبدو المقترح المغربي في اجتماع الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب يوم الثلاثاء الماضي وجيها جدا. لقد اقترح السيد ناصر بوريطة، وزير الخارجية والتعاون الإفريقي، على زملائه العرب تشكيل فريق عربي مصغر من الدول المعنية بالملف الليبي، مهمته وضع تصور استراتيجي عربي مشترك للإسهام الفعلي في تسوية الأزمة الليبية، تتحرك به الدول العربية بوصفها تكتلا إقليميا، وتؤثر به في اتخاذ القرار وفي تنفيذه. إنها فرصة للعرب للخروج من حالة الانقسام، والتحرك باعتبارهم تكتلا موحدا، في اتجاه استعادة المبادرة في ليبيا، بدل التباكي والشكوى من التدخل التركي أو غيره، لأنه، ببساطة شديدة، لو وجد فايز السرج خيرا فيهم، لما ذهب إلى أردوغان.ح