أظهر حجم التفاعل الحزبي مع الدعوة إلى حكومة تكنوقراط مدى جدية من يقف وراءها. إذ لا يُتصور أن تجتمع قيادات الأحزاب، من الأغلبية والمعارضة، على موقف موحد ورافض للدعوة إلى حكومة تكنوقراط، لو شعر قادة هذه الأحزاب بأن الأمر يتعلق فقط بمجرد تدوينات شاردة على الفايسبوك، وليس لديها من المعطيات والقرائن ما يؤكد أن البعض ربما استسهل الفكرة، فأراد الدوس على الدستور وعلى السياسة في هذه البلاد. أن تعبّر أحزاب العدالة والتنمية، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، والتقدم والاشتراكية، بصيغ مختلفة، عن موقف رافض للمقترح المتعلق بتشكيل حكومة تكنوقراط، بل وأن تدرج ذلك في بلاغات رسمية صادرة عنها، كما هو الحال بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، مؤشر قوي على أن الفكرة مطروحة بقوة لدى أكثر من جهة، إما قريبة من مواقع القرار، أو تؤثر فيه بشكل من الأشكال، ولا يتعلق الأمر بمجرد تدوينة صدرت عن كتيبة إعلاميين «مقصرين سياسيا» في هذه المؤسسة أو تلك. الهدف المعلن لدى أصحاب مقترح حكومة التكنوقراط هو إنقاذ الاقتصاد، لكن بوسيلة غير دستورية. وصيغتها أن يقدم رئيس الحكومة استقالته، على أن يعين الملك تكنوقراطيا لرئاسة الحكومة مدة عامين، وأن تتفرغ الأحزاب لتأهيل نفسها لانتخابات تُؤخّر عن موعدها بسنة واحدة، أي في 2022. لا أظن أن الدستور يسمح بهذه الصيغة، لأن الفصل 47 يؤكد أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات. وحتى في حال استقالته، تتحول حكومته إلى حكومة تصريف أعمال، في انتظار تعيين رئيس حكومة جديد يُفترض أن يكون من الحزب نفسه المتصدر للانتخابات، وهو ما فعله الملك محمد السادس، في سياق آخر، حين أعفى بنكيران وعيّن العثماني في مارس 2017. علما أن الفصل 47 يتضمن منهجية تعيين رئيس الحكومة على سبيل الحصر، وأي تجاوز لتلك المنهجية، معناه إفراغ الاختيار الديمقراطي، الذي هو أحد الثوابت الدستورية، من مضمونه، ولا أعتقد أن عاقلا في الدولة قد يوافق على انتهاك أحد الثوابت الوطنية. ثم، لماذا حكومة تكنوقراط؟ ألم يهلّل البعض ممن يدعو اليوم إلى هذا الخيار لحكومة الكفاءات القائمة حاليا برئاسة السيد العثماني، والتي تضم في مجملها تكنوقراطيين من خارج الأحزاب المشكلة لها ومن داخلها؟ وهل هناك تكنوقراط أفضل من الموجودين في الحكومة الحالية؟ وهل هناك ما يمنع هؤلاء من العمل والإبداع في حل مشاكل المغاربة؟ أليست أغلبية مواقع القرار الرئيسة في قطاعات المال والاقتصاد والإنتاج على رأسها تكنوقراطيون؟ ماذا يريدون، إذن، أكثر من ذلك؟ الجواب هو أنهم يريدون موقع رئيس الحكومة، بإبعاد سعد الدين العثماني. فهل بات العثماني مزعجا لهم إلى حد الإفتاء بالدوس على الدستور، وهم الذين كانوا يصفونه بالشخص اللطيف والهادئ والمنصت الجيد، فقط لغرض ذمّ سلفه الذي كانت تصفه الدوائر إياها بالشخص المندفع الذي يسبقه لسانه ويتجاوز الخطوط المرسومة؟ لماذا تراهم يبدلون المواقف والتحليلات كلما اقتربت الانتخابات، أو أحرز «البيجيدي» مواقع وحقق مكاسب ولو كانت ضئيلة؟ هناك فرضيتان تكشفان، ربما، خلفيات المقترح وأهدافه؛ الأولى، أن «البيجيدي» أسهم في نجاح إدارة مرحلة مواجهة «كورونا»، حيث أظهر، باعتباره حزبا سياسيا مدنيا، قدرته على التوافق والتعاون والتكامل في الأدوار بينه وبين باقي الأطراف الفاعلة في مواجهة الأزمة؛ مدنيون وعسكريون، سياسيون وتكنوقراط، فلم نسمع عن أي صدام أو توتر أو صراع، بل تابعنا عكس ذلك، أي الانسجام والتكامل في الأدوار بين الجميع، تحت قيادة الملك محمد السادس، ويبدو أن هذه الصورة أزعجت البعض، فأراد التشويش عليها من خلال استدعاء طبخة باردة عفى عليها الزمن، وتجاوزها الدستور. الفرضية الثانية أن الدعوة إلى حكومة تكنوقراط قد تكون مجرد صدى لحركة إقليمية أخيرة من لدن محور الثورة المضادة الذي يتلقى هزائم متتالية في ليبيا، ويحاول أن يغطي على هزيمته هناك بافتعال معارك وهمية في الإعلام الرقمي، حيث يحرض بشكل ممنهج على الفوضى في تونس، وعلى كسر الدستور في المغرب، بعدما عجز عن فرض أجندته البائسة على القيادات السياسية في البلدين، مقابل المال. في كلتا الحالتين، يبدو أن الهدف ليس إنقاذ الاقتصاد، بل استغلال ظرفية أزمة لتصريف أجندة فشل أصحابها في تحقيق أهدافهم منها أكثر من مرة، وسيفشلون مرة أخرى، لأن المغرب بمؤسساته أكبر وأعمق من أي فتوى تتذرع بالاقتصاد للدوس على ما تبقى من السياسة.