يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). ويؤكد لنا هذا الأمر أن البحث في الميتافيزيقا ليس بحثا يسير في خط مستقيم، مثل العلوم الأخرى التي تبحث في ما هو مرئي ومادي، بل تسير في خط دائري مغلق بدايته هي نهايته ونهايته هي بدايته، إذ لا يمكن فيها تحصيل اليقين، بل لا يمكن فيها تحقيق أدنى نسبة من اليقين يمكن اختبارها. ولو سلمنا جدلا بأن العقل قادر على تقديم إجابات كافية عن القضايا الميتافيزيقية، لكان من الأولى أن يتمكن العقل الغربي، بعد أكثر من أربعة وعشرين قرنا على العقل الإغريقي، من الوصول إلى اليقين في القضايا التي طرحها فلاسفة الإغريق، إذ ليس من المفهوم أن يقطع العقل الغربي الحديث أشواطا متقدمة على العقل الإغريقي البدائي في العلوم الأخرى، فيما يظل قابعا في موقعه في المعرفة الميتافيزيقية، لا يكاد يبرح العقل الإغريقي. وهذا ما لاحظه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، فيلسوف الظاهراتية، فقد نبه إلى أن الفلسفة الإغريقية كانت تريد أن تكون «علما»، بالمعنى الإمبريقي التجريبي لمصطلح العلم «وأن تصبح معرفة كونية لكونية الكائن، ليس العلم بمعناه العام والنسبي المتعلق باليومي، بل المعرفة العقلانية، لكن الفلسفة القديمة -وهذه كانت قناعة مؤسسي العصور الحديثة- لم تصل بعد إلى المفهوم الحقيقي للعقلانية، ولا إلى المفهوم الحقيقي للمعرفة الكونية». ويشير هوسرل إلى أن هذا المفهوم الحقيقي للمعرفة الكونية أو ما يسميه «المثال الجديد»، تحقق فقط في الرياضيات والطبيعيات. لكن هوسرل -الذي كان يؤمن بقدرة العلم على خرق المعتاد- يشير إلى أن الحصول على اليقين في الرياضيات والطبيعيات محفز على إمكانية الحصول على اليقين في المجالات الأخرى، بحيث يمكن الوصول إلى المعرفة الكلية (Le Savoir total)، والقفز من «أدنى المعلوم إلى المجهول». ويذهب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أبعد من هوسرل، إذ يرى في كتابه «مبدأ العقل» أن الفلسفة ظهرت وكرست نفسها في الغرب منذ القرن السادس قبل المسيح، «وقد مضت ثلاثة آلاف ومائة سنة قبل أن ينجح الفكر الأوروبي الغربي في اكتشاف وطرح هذا المبدأ البسيط الذي هو مبدأ العقل». ويعني هايدغر بالعقل هنا شيئين، فعل التعقيل أو العقلنة، وعملية رد كل شيء إلى سبب مباشر. وهو يميز بين الفهم والعقل، لكنه يرى أن عملية الفهم مرتبطة بالعقل، لأنه لا يمكن فهم أي شيء إذا لم يكن وراءه سبب، أو إذا لم يكن قابلا للتعقل، وهذا ما يعنيه بعبارة «مبدأ العقل»، الذي يصوغه في المقولة التالية: «لا شيء دون سبب» (Rien n'est sans raison )، فيقول إن الفهم «يتطلب أن تكون افتراضاته وتأكيداته مبنية، فالافتراضات المبنية هي وحدها القابلة للتعقل، وهي وحدها المطابقة للعقل». فإذن، يمكننا القول، بناء على ما سبق، بأن العقلانية الإغريقية لم تكتمل، بالشكل الذي تصوره بعض الفلاسفة الأوروبيين في العصر الحديث، طالما أن هناك مجالات لاتزال مجهولة لم يخترق العقل أستارها، وهذا ما اتضح لنا مع هوسرل وهايدغر اللذين يريان أن العقلانية لاتزال محدودة، ولم تصل بعد إلى تحقيق المعرفة الكلية التي تحيط بكل شيء علما، وفقا للأول، كما لاتزال غير قادرة على أن تقدم تفسيرا عقليا لكل شيء في الوجود، وفقا للثاني. وبالرغم من هذه التأكيدات، فإن الغرب ضخم من العقلانية اليونانية وروج مقولة «المعجزة الإغريقية»، للإشارة إلى إسهام الإغريق في الفكر الإنساني، حيث رد كل منجزات الفكر اليوناني إلى ظروف يونانية داخلية صرفة، وأكد أن المعجزة اليونانية وليدة العرق اليوناني فقط، وليس فيها أي مؤثرات خارجية. ونرى هذا أيضا في تعامله مع الفلاسفة المسلمين، فهؤلاء لم يتعد دورهم عنده دور الترجمة والنقل والشرح، أما الإبداع والابتكار فقد كانوا عاجزين عنه، ولم يكن بمستطاعهم أن يتفوقوا على الفكر اليوناني أو أن يوازوه، بل كل ما كان يمكنهم القيام به هو تقليده. ولتحقيق هذه الغاية، عمد الأوروبيون إلى تحريف التاريخ اليوناني القديم، ومحاربة الأطروحة القائلة بأن الفكر اليوناني تأثر بشكل كبير بالفكر المصري القديم، وأن مصر كانت هي مهد الحضارات القديمة، ومنها انتقلت الحضارة والفكر إلى الأمم الأخرى، ومنها الإغريق، لأن هذا يؤدي إلى القول بأن الجذور الغربية موجودة في الشرق وبأن الغرب مدين للشرق، وهو ما ترفضه العقلية الأوروبية الغربية التي بنت تميزها على التفوق العنصري والثقافي على الشعوب الأخرى. وفي الفقرة السابقة لهايدغر يمكننا أن نلمح هذا التوجه، فقد تحدث عن انتشار الفلسفة في الغرب قبل القرن السابع من ولادة المسيح، مع أن الغرب لم يكن موجودا وقتها، ومعلوم أن هايدغر كان متعصبا للفلسفة الإغريقية والعقل الإغريقي، ويؤمن بالتفوق العنصري. يشير مؤرخ الفلسفة الإغريقية، شارل وارنر، إلى أن الأطروحة القائلة بأن الفكر الإغريقي يعود بأصوله إلى الثقافة المصرية كانت أطروحة منتشرة وبديهية في العصور القديمة، حيث لم تكن تقبل الجدال، فنومينيوس (Numénios d'Apamée)، أحد الفلاسفة الإغريق من المدرسة الفيتاغورية الجديدة، كان يقول إن أفلاطون هو «موسى الذي يتكلم اليونانية»، في إشارة إلى أنه تلقى علومه في مصر على يد المصريين. وقد ظلت تلك الأطروحة موجودة إلى العصور الحديثة، لكن في نطاق نخبة ضيقة من المؤرخين الذين ظلوا يؤمنون بها، فيما سار التيار الأكاديمي الأوروبي كله في الاتجاه المقابل، وهو تأكيد أطروحة مركزية الفكر الإغريقي وأصوله الغربية. وكان من كبار المدافعين عن الأطروحة الأولى، الفيلسوف الألماني «آدم دافيد روث» الذي كان يرى أن الفلسفة الإغريقية ليست لها أية خصوصية تميزها، وأنها ليست وليدة الإغريق بل تعود بجذورها إلى مصر، كما أنها كانت خليطا من الأفكار الأسطورية، وأنه لا يمكن الحديث عن بداية فلسفة إغريقية خالصة قبل أرسطو، حيث بدأت الفلسفة الإغريقية تتخلص تدريجيا من الأسطورة.