أصبح من شبه المؤكد أن نزاع الصحراء لن يكون بعد فيروس كورونا كما كان قبله، إذ إن هذه القضية التي تحولت إلى «نزاع النزاعات» في المنطقة، بعدما عمرت أكثر من أربعة عقود دون حل، أصبحت، حاليا، خارج حسابات الدول الكبرى التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم خدمة لمصالحها، لكن الأهم هو التغييرات المتسارعة داخل جبهة البوليساريو، والتي من شأنها أن تسهم في حلحلة الملف. وتجسدت آخر التطورات الداخلية في المواجهة الخطابية غير المباشرة بين إبراهيم غالي، زعيم الجبهة، والحاج أحمد بريك الله، زعيم الحركة السياسية المعارضة الجديدة «صحراويون من أجل السلام»، وذلك بمناسبة ما يسمى «الذكرى السابعة والأربعين لاندلاع الكفاح المسلح». وليس من الصدفة أن يخرج أحمد بريك، المندوب السابق للجبهة في إسبانيا ووزير التعاون قبل استقالته سنة 2012 وأحد الصحراويين المعروفين في أمريكا اللاتينية، في يوم احتفاء البوليساريو الأربعاء الماضي ب«الذكرى ال47 لاندلاع الكفاح المسلح»؛ في حديث جريء منتقدا الجبهة. وسحب الحاج أحمد البساط من إبراهيم غالي، مبرزا أنه ليس الممثل الوحيد للشعب الصحراوي، مقرا بحق المواطنين المغاربة الصحراويين في الأقاليم الجنوبية في التعبير عن آرائهم الداعمة لأطروحة الرباط، وفي المقابل، وجه رسائل مشفرة مهادنة إلى السلطات المغربية، جاعلا باب الحوار مفتوحا، رغم تأكيده أنه لم يتلق أي اقتراح أو عرض من المغرب. وبينما ردد إبراهيم غالي في خطابه أن البوليساريو هي «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي»، أكد الحاج أحمد أن البوليساريو لا يمكنها أن تكون الممثل الحصري للصحراويين؛ أولا، لأنه توجد داخل الحركة الانفصالية الكثير من الأصوات الناقدة؛ ثانيا، ضرورة الأخذ برأي الصحراويين الموالين للمغرب «المحترمين مثل الآخرين»، وفق ما صرح به لوكالة الأنباء الإسبانية «إيفي». وفي موقف غير مسبوق أقرب إلى الأطروحة المغربية، أورد الحاج أحمد أن «الحقائق الملموسة على الأرض، ووزن الواقعية السياسية، والمصالح الكبرى قادرة على تغيير، بل حتى تقويض المشاريع والأحلام مهما بدت شرعية ورومانسية»، في إشارة واضحة إلى أن الكثير من الوقائع والسياقات والمصالح تغيرت، ما يفرض على قيادات تيندوف التفاعل مع السياق الجديد. أكثر من ذلك، أقر الحاج أحمد بأن المقترح المغربي القائم على الحكم الذاتي يمكن أن يكون جزءا من الحل، حيث قال: «دون شك، الحكم الذاتي نقطة انطلاقة للبحث عن حل سلمي»، حسب «إيفي». ويبدو أن السياسي والدبلوماسي الحاج أحمد، الذي عين أمينا عاما للحركة الجديدة «صحراويون من أجل السلام»، يحاول أن يحافظ على المسافة نفسها من المغرب والبوليساريو، بتأكيد أنه لم يتواصل مع السلطات المغربية، رغم أن بلاغ التأسيس أشار إلى أن الحركة ستتواصل مع الأطراف المعنية المباشرة وغير المباشرة، البعيدة والقريبة، حيث يوضح الحاج أحمد قائلا: «لم تكن لدي أي اتصالات خاصة مع المغرب، ولم أتلق منه أي مقترح». ويظهر من كلام الحاج أحمد أن الاعتقالات التي تعرض لها مجموعة من المناضلين والمحتجين في مخيمات تيندوف ابتداء من يونيو 2019 كانت بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، على غرار الفساد والقبلية، ما دفع قيادات وازنة سابقة وحالية (لم تُكشف هويتها) إلى التعجيل بتأسيس حركة «صحراويون من أجل السلام» عن بعد في عز أزمة فيروس كورونا. وكانت الحركة برمجت عقد مؤتمرها التأسيسي في موريتانيا، لكن استمرار الحجر الصحي وإغلاق الحدود دفعها إلى عقد اجتماعها عن بعد، واختيار المكتب التنفيذي واللجنة الاستشارية يوم 26 أبريل الماضي. وأكد الحاج أحمد أن الصحراويين في المخيمات سئموا وضعهم الحالي، في ظل انسداد الآفاق والإحباط وغموض المستقبل، وأضاف أن هذا «اليأس دفع البعض (في المخيمات) إلى البحث عن لقمة العيش من خلال الارتماء في أحضان المهربين والجماعات الجهادية». وخلص زعيم الحركة الجديدة، التي تعتبر نفسها «الطريق الثالث»، إلى ضرورة التوصل إلى حل سلمي للنزاع، مستبعدا العودة إلى السلاح، لأن هذا الخيار مرفوض من لدن المغرب والجزائر وباقي القوى الفاعلة في القضية، وأبرز أن الحركة جاءت لحلحلة الملف «لكي لا يفقد الاهتمام ويتحول إلى كشمير أخرى». وهكذا يعترف الحاج أحمد بأن الوضع الراهن وتداعياته في المستقبل، إقليميا ودوليا، لن يؤدي إلى معالجة هذا النزاع الذي يعرقل الاندماج المغاربي، إلا إذا كانت هناك رغبة حقيقية لدى الأطراف المعنية المباشرة. وكانت الأطروحة الانفصالية للبوليساريو تأثرت بشكل كبير باستفتاء الانفصال في كتالونيا، إذ إن الرأي العام الإسباني، الذي كان يدعم الجبهة، أصبحت لديه حساسية من «الانفصال»، كما أن الحكومة الإسبانية أصبحت قريبة من الأطروحة المغربية منذ يونيو 2018. وفوق هذا وذاك، فإن النزاع لا يدخل في حسابات القوى الكبرى، أمريكا وروسيا وفرنسا والصين، في ظل انشغالها بإنقاذ مواطنيها واقتصادها من الفيروس التاجي الفتاك الذي لم يسبق له مثيل. ويعتبر تأسيس حركة «صحراويون من أجل السلام» ثاني ضربة قوية تتلقاها جبهة البوليساريو في السنوات الخمس الأخيرة بعد ضربة تأسيس إطار سياسي صحراوي جديد بإسبانيا في نونبر 2017 تحت اسم: «المبادرة الصحراوية من أجل التغيير»، بزعامة حاج أحمد البخاري، الوزير السابق في البوليساريو وشقيق الراحل أحمد البخاري، ممثل الجبهة في الأممالمتحدة مدة 16 عاما. مع ذلك، تبقى حركة «صحراويون من أجل السلام» أبرز حركة معارضة إلى حدود الساعة. وعلى غرار الرسائل الودية للحاج أحمد بريك الله تجاه المغرب، فإن حاج أحمد البخاري سبق وأكد الحاجة إلى إخراج الشعب الصحراوي من «البئر المظلمة» التي يقبع فيها منذ انسحاب إسبانيا من الصحراء، مؤكدا أن «الحل يجب أن يكون وسطا بين ما هو ممكن وما يُرجى. الحل المعقول هو ذلك الذي تتلاقى فيه مصالح بعض المغاربة وحقوق صحراويين آخرين»، وأضاف أن الخروج من حالة الانحصار يفرض على الطرفين «إبداء حسن النية وبناء الثقة».