في تطور مثير لوحت جبهة البوليساريو الانفصالية، التي تنازع المغرب سيادته على الصحراء المغربية منذ السبعينات من القرن الماضي، باللجوء إلى الحرب، ردا على موقف الرباط من الحشد العسكري للجبهة على الحدود قرب الجدار الأمني في الصحراء المغربية، في معبر الكركرات الذي يقضي قرار وقف إطلاق النار في العام 1991 بإبقائه منطقة منزوعة السلاح. حيث قال عبدالله البلال، وزير دفاع الجبهة، يوم الخميس الماضي، إن الحرب مع المغرب “باتت وشيكة”. وهذه هي المرة الثانية التي تحشد الجبهة قواتها المقاتلة في المعبر، منذ شهر ديسمبر عام 2016، حين وضعت الجبهة حاجزا لمراقبة حركة العبور بين المغرب وموريتانيا، في تحد واضح لقرار منظمة الأممالمتحدة بوقف إطلاق النار، الأمر الذي كاد يؤدي إلى نزاع عسكري مع المغرب، لولا تدخل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي دعا الطرفين إلى سحب قواتهما العسكرية.
وإذا كانت الجبهة في تلك الفترة قد لجأت إلى ذلك التصعيد كمحاولة لابتزاز المغرب بعد قرار عودته إلى الاتحاد الأفريقي الذي ظل غائبا عنه منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، وما تلا ذلك القرار من سحب عدد من العواصم الأفريقية اعترافها بالجبهة ومسمى “الجمهورية الصحراوية”، فإنها، في هذه المرة، تحاول الضغط بطريقة غير مباشرة على الرئيس الجديد لبعثة المينورسو المكلفة بمراقبة قرار وقف إطلاق النار بين الجانبين، الكندي كولين ستيوارت، إذ جاء حشد الجبهة لقواتها في معبر الكركرات أياما قليلة بعد تعيينه.
غير أن هذا التصعيد الجديد المفاجئ، والتهديد بحمل السلاح الذي يعتبر بمثابة انقلاب صريح على القرار الأممي بالتهدئة ووقف إطلاق النار، تقف وراءهما وضعية الأزمة التي تعيشها الجبهة منذ بضعة أشهر، ما يدفعها إلى التشويش على المستوى الإقليمي لحرف الأنظار وفي الوقت نفسه محاولة رص الصفوف الداخلية في المخيمات وراء القيادة التي تواجه في الوقت الراهن سيناريو الانقسام، أو على الأقل مخططا داخليا للانقلاب على قيادة إبراهيم غالي، الذي تولى زعامة الجبهة في يوليو من عام 2016 خلفا لمؤسسها محمد عبدالعزيز.
فقبل بضعة أسابيع أُعلن في مخيمات تندوف عن ميلاد حركة تمرد جديدة أطلقت على نفسها اسم “المبادرة من أجل التغيير”، وذلك بعد خمسة عشر شهرا من تولي إبراهيم غالي زعامة الجبهة وإعلانه أنه رجل الجميع.
وخلافا للتيارات السابقة التي انشقت عن الجبهة مثل حركة “خط الشهيد” التي كانت قد ظهرت قبل سنوات في عهد محمد عبدالعزيز، جاءت المبادرة الجديدة علنية ومن داخل المخيمات لا من خارجها، وضمت أسماء وازنة في الجبهة، من بينها “وزيران” سابقان فيها، هما الحاج أحمد بريك الله، وأولاد موسى، اللذان وقعا على بيان التأسيس.
وينظر الكثيرون إلى هذه المبادرة على أنها صادرة عن رغبة في “تدويل” الأزمة داخل البوليساريو، وهذا ما دفع أصحابها إلى الإعلان عن أنفسهم منذ اليوم الأول، بخلاف الحركات السابقة التي كان وراءها أشخاص مجهولون بسبب الخوف من مطاولة القمع أفراد عائلاتهم في المخيمات.
وعلى الرغم من كون الحركة الجديدة لا تتميز عن الخط العام في البوليساريو في ما يتعلق بالموقف من نزاع الصحراء، أو في ما يتصل بالموقف من المغرب، إلا أنها تمثل نوعا من الخط التصحيحي داخل الجبهة، وهو ما يعني أيضا أنها تشكل تهديدا للقيادة الحالية.
وليست هذه هي الأزمة الوحيدة التي تتربص بالجبهة. فعلى الصعيد الدولي يواجه زعيمها إبراهيم غالي اتهامات بالجملة في قضايا جنائية يتابع فيها أمام المحاكم الإسبانية.
فقد وجهت إليه المحكمة العليا في مدريد دعوة للحضور من أجل الرد على الاتهامات الموجهة إليه بشأن اقترافه أعمال إبادة واغتيالات وتعذيب داخل المخيمات، ووقوفه خلف حالات للاختفاء القسري لناشطين صحراويين معارضين، عندما كان وزيرا للدفاع في الجبهة في الفترة ما بين 1978 و1991، تاريخ دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
ومنذ العام 2016 بات ابراهيم غالي متخوفا من دخول التراب الإسباني، إذ في نوفمبر من تلك السنة كان مقررا أن يزور برشلونة للمشاركة في نشاط لإحدى الجمعيات المحسوبة على الجبهة، لكن صدور أمر من قاضي التحقيق الإسباني، خوص يدي لا ماطا، إلى السلطات الأمنية للتحقيق معه في التهم الموجهة إليه صرفه عن دخول إسبانيا.
علاوة على هذه الاتهامات الثقيلة، التي تضاف إليها اتهامات أخرى بالاغتصاب وجهت إليه منذ العام 2013، يواجه غالي اتهامات بتحويل أموال وأدوية كانت موجهة من منظمات دولية إلى اللاجئين الصحراويين في المخيمات.
ومنذ عام 2015، تاريخ صدور تقرير عن “المكتب الأوروبي لمحاربة الفساد”، الذي اتهم قيادة البوليساريو باستغلال المساعدات الإنسانية، أصبحت ذمة هذه الأخيرة موضع شكوك لدى العديد من المنظمات الدولية، الأمر الذي من شأنه أن يقلص من حجم المساعدات التي تتلقاها المخيمات، وهو ما قد يؤدي بالنتيجة إلى المزيد من الاحتقان مستقبلا.
وليست لهجة التهديد التي تستعملها الجبهة في الفترة الأخيرة، وعمليات التصعيد قرب الجدار الأمني، إلا محاولة لذر الرماد في العيون وصرف الاهتمام الدولي عن حجم الفساد المستشري داخل المخيمات التي توجد في وضعية إنسانية صعبة تحت سلطة البوليساريو التي تتاجر في مآسي الصحراويين.
وتعرف قيادة الجبهة نفسها أن خيار الحرب ليس خيارا رابحا بالنسبة لها، سواء من الناحية اللوجستية نظرا للتباين الكبير بين القدرات العسكرية المغربية وبين قدراتها هي، أو من الناحية السياسية، كون أي محاولة للاستفزاز سترتد بشكل عكسي على ما تبقى من الرصيد السياسي الذي تتوفر عليه في القارة الأفريقية لدى بعض العواصم التي لا تزال تحافظ على موقف الاعتراف بها.
ولذلك تلجأ البوليساريو إلى التصعيد فقط من أجل محاولة كسب الوقت وإدامة النزاع، خصوصا وأن حل النزاع وفقا لقرارات الأممالمتحدة سينهي عهد القيادة التقليدية للجبهة ويقضي على مصادر تمويلها، إذ هي تتغذى من استمرار الأزمة وبقاؤها رهين ببقائها.