لم يكن أبو هريرة أقرب صحابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه الرجل الذي روى عنه أكثر عدد من الأحاديث، بسبب شخصيته الاستثنائية، وتحفظ الآخرين أو موتهم المبكر أو انشغالهم بأشياء أخرى. وعندما بدأ المسلمون في تدوين الحديث، وجدوا صمت الدائرة الأولى من الصحابة مخلوطا بثرثرة أبي هريرة، هكذا تبوأ عبدالرحمان بن صخر الدوسي مكانا مرموقا في رواية الحديث، مثيرا غير قليل من الجدل، عبر القرون. من أراد أن يتوسع في الموضوع، يمكنه قراءة كتاب ثمين للباحث مصطفى بوهندي عنوانه: “أكثر أبو هريرة”*. بعيدا عن الدين، عندما نتحدث عن الذاكرة إجمالًا، هناك شيء يمكن أن نسميه ب”ظاهرة أبي هريرة”: الشهود الأقرب إلى الأحداث، ليسوا هم من يدونون الوقائع، لذلك تنتشر الروايات المتناقضة والمغالطات والزيادات أحيانا في كتب التاريخ. مناسبة هذا الكلام، مقال أرسله لي أحد الأصدقاء عن المفكر عبدالله العروي، يستند صاحبه على تفاصيل، مجملها معروف عند من عاشوا العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، جهة اليسار، رغم أنها غير مدونة. واضح أن سطوره مكتوبة من الذاكرة، لأنه يتوسل بسرد تقريبي، يسكت عن أشياء ويُضخم أخرى، يستحضر وقائع ويتخيل أخرى، مطمئنا إلى أن الزمن متحالف معه، لأن الذين بإمكانهم تكذيبه ماتوا أو صمتوا أو باتوا متعالين عما يجري. ما أثارني في المقال، أنه ينطلق من تفاصيل شخصية عن صاحب “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية”، عن عائلته وأصهاره، ويخلط شعبان برمضان، كي يصل إلى خلاصات عجيبة حول “التطبيع” و”التمخزين” و”التبجح” و”العجرفة”… ليس سرا، في الوسط الثقافي والإعلامي المغربي، أن عبدالعروي شخص صعب المراس، مزاجه متقلب، وتصرفاته يمكن أن تفاجئك. لكن ما علاقة ذلك بمؤلفاته؟ وإذا لم يكن الرجل يخرج في التظاهرات التضامنية مع فلسطين ولا يوقع العرائض والبيانات… هل يغير شيئا من قيمة ما يُنتج من أفكار؟ وليس لأن الجميع يتغنى اليوم بالعيطة والشيخات، ويؤلف حولها الكتب والأطاريح الجامعية، معناه أن فصل “التعبير والفولكلور” في “الإيديولوجية العربية المعاصرة” فقد مصداقيته. العكس تماما، قوة الحجة وعمق التحليل، لم تنل منه السنين، ودخول العيطة إلى الجامعة، ربما يدل على سقوط الثقافة المغربية في مستنقع الفولكلور. العروي ليس مقدسا، لكنه مؤرخ من العيار الثقيل، ولا يمكن أن نقارب تجربته الفكرية استنادا إلى ذاكرة مُخاتلة، مليئة بالثقوب، وبالعمى الإيديولوجي. المفكّر والمؤرخ لا يوجد إلا في كتبه، في “الإيديولوجية العربية المعاصرة” و”الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية” و”مجمل تاريخ المغرب” و”ثقافتنا في ضوء التاريخ” و”العرب والفكر التاريخي” وسلسلة “المفاهيم” و”خواطر الصباح” و”ديوان السياسة” و”استبانة”… لست مُحتاجا أن تلتقيه أو تُجالسه أو تحاوره كي تعرفه. وربما لأنه يتعالى على التفاهة، ويتصرف بعجرفة مع الآخرين، ولا يعطي الحوارات لمن هب ودب… ربما بسبب ذلك أصبح عبدالله العروي الذي نعرفه، ونترقب جديده بشغف. ولنفترض أنه “مخزني” و”خائن” و”مُطبِّع” و”بورجوازي” و”متعجرف” و”منافق”… بل هبْ أنه الشيطان نفسه: هل نحاكم الكاتب على إنتاجه الفكري أم على مواقفه السياسية؟ على إبداعاته أم تصرفاته مع الناس؟ إنتاج الأفكار شيء، والالتزام بها شيء آخر. الكتابة شيء، والموقف السياسي شيء آخر. أبو الطيب المتنبي كان يمدح الملوك والحكام كي يحصل على المال والحُظوة، وكان متقلبا في مواقفه، انتهازيا في علاقاته، حقيرا في مدحه، عنصريا في هجائه، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون أكبر شاعر في تاريخ العرب. غاليليو غاليلي أثبت علميا بان الأرض تدور، لكنه حين شعر أن ظلاميي الكنيسة سيُنكلون به، تراجع عن نظريته، وقال لهم ما يحبون سماعه: “الأرض مسطحة”… مضيفا في أعماقه: “مثل عقولكم”! هل يُنقص ذلك من قيمة غاليلي العلمية والتاريخية؟ لوي فيرديناند سيلين تعاون مع النازيين، ونظَّر للعنصرية والحقد العرقي، وأطلق العنان لأفظع تعابير الكراهية ضد اليهود، لكن ذلك لا يمنع “رحلة في آخر الليل”، أن تكون من أجمل الروايات التي كتبت باللغة الفرنسية في كل العصور. الطاهر بن جلون قضى سنوات مجده الأدبي في فرنسا، ساكتا على الانتهاكات التي تجري في مملكة الحسن الثاني، وعندما سُئل عن السبب رد ببساطة: “أمي كانت تعيش في المغرب وخفت أن أُحرم من رؤيتها”! وقد قيل الكثير عن تذبذب مواقف صاحب “غونكور” وعضو أكاديميتها، لكن هل ينقص ذلك من قيمة “ليلة القدر” وشقيقاتها؟ الإبداع شيء وحسن السيرة والسلوك شيء آخر تماما.