قال المفكر عبد الله العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. يأتي كتابك الأخير “عبدالله العروي… المؤرخ والنقد الثقافي” كحلقة إضافية إلى سلسلة كتابات تسعى إلى قراءة أعمال العروي من منظور النظريات ما بعد الكولونيالية. هل فعلا يتيح فكر العروي وأدبه هذا النوع من القراءة؟ ثم هل يمكننا فعلا القول إن العروي يمارس النقد الثقافي؟ أوّلا يظهر أنه من المفيد الوعي بالجبهات أو الواجهات أو سمّها ما شئت التي يكتب فيها عبدالله العروي من تاريخ وفلسفة وتنظير لمفهوم التاريخ ومفاهيم أخرى أساسية في أبنية الفكر العربي وكذلك أعماله روائية. وكما يقول: “أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرّخ بالضرورة”. ودونما تغافل عن ترجماته لأعمال- أصول وصولا إلى كتبه الأخيرة التي صنّفها البعض ضمن “الأسلوب الأخير” (بمعناه المصاغ عند إدوارد سعيد)، مع أنها لا تخلو من صلات مع أعمال “النقد الإيديولوجي” وكتابة تاريخ المغرب. ولقد تعاطى مع هذه المواضيع من موقع “التأليف” غير المسبوق في الفكر العربي والثقافة العربية وكتابة تاريخ المغرب. وكان من تحصيل الحاصل أن يحظى هذا المنجز بقراءات متفاوتة غير أنها تظل في اعتقادنا في غير حجم المنجز، وبالتحديد من ناحية محتويات المحاورة والاعتراض… مقارنة مع ما يمكن تسجيله في حال المفكر محمد عابد الجابري الذي قال إنه يستحيل عليه بنفسه إحصاء ما كتب عنه. ومن جهة أخرى، فإن أغلب من كتبوا عن عبدالله العروي هم ينحدرون من مجال الفلسفة والدراسات الأدبية؛ الأمر الذي حال دون تقديم قراءات متنوعة في المشروع. أغلب القراءات تميل إلى عبدالله العروي- المنظر بدلا من المؤرّخ، وكان لذلك نتائجه التي يمكن أن تدرس أكثر في ضوء نقد النقد بمعناه الجذري. وكان رهاني في الكتاب مفارقة هذا التوجّه الغالب الذي بدا في شكل تقليد في التعامل مع هذا المنجز. وفيما يتعلق بإمكان دراسة منجز عبدالله العروي في ضوء “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي”، فهو ما كرّسنا له البحثين الأولين، الأول ذو صلة بالمنجز الفكري والتاريخي، فيما الثاني متصل بالتأليف الروائي من خلال عمل “أوراق” الروائي الذي يندرج- بثقل كتابي ومفاهيمي وبكثير من التميّز- ضمن التيار الروائي الذي حفل بالغرب الأوروبي الرأسمالي من خلال عواصمه الكبيرة. ذاك الغرب الذي يتحرّق الطالب الشرقي إلى الإقامة فيه من أجل التحصيل المعرفي والتحرّر الوجودي. أمّا أن يكون عبدالله العروي قد مارس “النقد الثقافي”، فهذا ما لم نقله في العمل وسواء على مستوى التضمّن أو اللزوم. ذلك أن هذا النقد، في مظان تشكّله بإنجلترا ابتداءً، قرين “سياسة” تقرّ بأشكال من التمثيل التي لا تعنى فقط، بالنصوص الكبرى أو المكرّسة، إضافة إلى التعاطي مع ثقافات غير مصنّفة مثل الثقافة الشعبية وثقافة العمال وثقافة الاتصال الجماهيري. وموقف العروي من الثقافة الشعبية أو الفلكلور موقف رافض. والرجل يشير إلى التخلف في هذا المجال. إلى أي حدّ تسمح الدراسات الثقافية والمقاربات ما بعد الكولونيالية بتفكيك وتحليل الأبعاد المختلفة في فكر العروي، وبتجاوز ذلك “العجز القرائي” الذي اشتكى منه العروي في إحدى الندوات بالدار البيضاء؟ يبدو عبثا، في ظل الانفجار النظري الذي يميّز العصر، وكذلك “الإحكام المعرفي الهائل” كما نعته الأكاديمي إدوارد سعيد، أن نقدم على دراسة موضوع وازن أو محاورة مشروع لهرم في الفكر أو النقد… دونما اتكاء على منهج أو توجّه معرفي أو حتى “صندوق أدوات”، بتعبير الفيلسوف جيل دولوز في حق صديقه ميشيل فوكو. فالتسلّح بهذه المعرفة لازم وإلا سقطنا في الثرثرة أو “الشقشقة بخاصة وأن المنهج بمعناه الكامن في الفكر ذاته. وكما يقول عبدالله العروي نفسه في كتابه “مفهوم العقل”: “عندما أتكلّم عن المنهج أعني في الواقع منطق الفكر الحديث بعد أن انفصل عن الفكر القديم”. والعلاقة بين النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار مؤكّدة، غير أن هناك أكثر من اختلاف في قراءتها. ويبقى الجامع هو التركيز على محورية الثقافة هنا، وفي التباسها بألغام الهويات وسياسات الذاكرة والأمة والسرد أو رواية السرديات الكبرى. ومكانة الثقافة في منجز عبد لله العروي قائمة، وحتى الرهان على استبدال ثقافة بثقافة أخرى وارد. والمؤكد من خارج أي طرح قومي جاهز. وكما لاحظ العروي، فالمغرب صار أكثر تقليدية مما كان يبدو بعد الاستقلال، ويتضاعف المشكل في حال مجتمع “مفتت ومسحوق”، بتعبيره. وهو ما يطرح أهمية الواجهة الثقافية هنا على مستوى التعاطي مع “بنية” التقليد. وكذلك إشارات العروي المغايرة والمتميزة للاستعمار. فالاستعمار سبقت إليه شعوب أخرى من خارج أوروبا، ولكن “السؤال المطروح”، كما يقول هو: “فيمَ تختلف السيطرة الأوروبية، أثناء القرنين الأخيرين، عن السيطرات المتلاحقة التي عرفها التاريخ؟” وعلى مستوى آخر، قال عبد لله العروي في حوار معه إن “التطوّر الذي عرفه التاريخ مؤخرا يتجلى في الحديث عن تدهور المستعمرات”. وهي، وغيرها، أفكار تفيد على مستوى نزع الطابع التقليدي عن دراسات ما بعد الاستعمار.