ستجد الأحزاب، كما قطاعات واسعة من النخب بالمغرب، نفسها، وقد تجاوزتها حركة التاريخ بعد أزمة كورونا، فللأزمة تداعيات ليست فقط اقتصادية واجتماعية، بل سياسية كذلك وعلى بنية الدولة.. هذا ما قاله مصطفى الخلفي، الوزير السابق، في حوارنا معه، والذي أظهر فيه تفاؤله بمستقبل الديمقراطية في البلاد، رغم التحليلات السائدة حول احتمال تغول الدولة بنزعة سلطوية أكثر. وفي الوقت الذي تلام فيه الدولة على رفع يدها عن قطاعي التعليم والصحة، يبرئ الخلفي حزبه من تلك التهمة، ويقول إنه في عهد رئاسته الحكومة ارتفعت ميزانية القطاعين، ويلقي باللوم على إضرابات المدرسين، ويشيد بإجراء الأجر مقابل العمل، ولا يستبعد بروز تعبيرات حزبية جديدة وأفول أخرى. جرى إعلان تمديد حالة الطوارئ الصحية لدواع صحية. إذا جرى إنقاذ البلاد من التداعيات الصحية للفيروس، هل يمكن إنقاذها من تداعيات حالة الطوارئ الاقتصادية والاجتماعية؟ أولا، شعار المرحلة الأساسي هو الصحة أولا، فدون تجاوز أزمة كورونا لا يمكن الحديث عن أي إنقاذ اقتصادي أو غيره، وبناء على ذلك، تأسست الاستراتيجية الاستباقية بقيادة جلالة الملك، والتي مكنت من السيطرة على الفيروس، ولله الحمد، وهو ما تدل عليه عدة مؤشرات، كتراجع نسبة الوفيات ومعدل العدوى… نحن، إذن، في مسار سيؤدي إلى جعل مدة الحجر الصحي أقل، وكلما كانت أقل كانت القدرة على استئناف الحياة الاقتصادية أكبر. أما التساهل في الحجر الصحي ومقتضياته فسيؤدي إلى إطالة أمده، ولن تنجح أي محاولة لاستئناف الدورة الاقتصادية. إذا سمحت، المقصود من السؤال ليس التساهل في إجراءات الحجر الصحي، بل هل لدينا مقومات لإنقاذ البلاد في الشهور المقبلة من أزمة أخرى مستجدة، فكما تعصف الأوبئة بالمجتمعات والدول، فإن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تكون مدمرة كذلك. قدرة بلادنا على إعادة إطلاق انطلاقة اقتصادية جديدة مشروطة، أولا، بإرساء منظومة صحية وقائية جديدة تتوفر على قدرات عالية في ما يتعلق بالكشف والعلاج. وتمديد الحجر الصحي هو خطوة أولى في هذه الانطلاقة الاقتصادية. هذا ما أردت توضيحه. لكن هذا لا ينفي أننا مقبلون على مرحلة اقتصادية صعبة، ينبغي أن نكون على وعي بأبعادها، وهو ما تدل عليه العديد من المؤشرات: فثلثا النسيج المقاولاتي تضررا بشكل مباشر، وجرى التصريح بعدد الأجراء المتوقفين عن العمل، والذي بلغ في المرحلة الأولى 800 ألف، بمعنى ثلث الأجراء المسجلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والذين يبلغ عددهم مليونين و600 ألف. أما القطاعات الاقتصادية المصدرة، فستتضرر بشكل جسيم حسب المؤشرات المتوفرة، وأنا لست متفائلا بالصورة التي ظهر بها تقرير المندوبية السامية للتخطيط، فالبلدان المستقبلة لصادراتنا ستشهد انكماشا اقتصاديا كبيرا جدا. أما في ما يتعلق بالسياحة، فبعض التقارير تتحدث عن أننا سنفقد ستة ملايين من السياح، وسنشهد كذلك تراجعا في الاستثمارات الأجنبية وموارد المغاربة المقيمين بالخارج، وهذه كلها مؤشرات سلبية ينبغي ألا نستهين بها، ولها انعكاساتها الكبيرة على ارتفاع معدل البطالة، بعدما بدأت في التراجع. قبل أزمة كورونا كانت الكثير من الأصوات تلفت النظر إلى أن المغرب يعيش نوعا من الاحتقان الاجتماعي، الذي تمظهر في مجموعة من الحراكات الاجتماعية وبؤر التوتر الاجتماعي هنا وهناك. بعد أزمة كورونا، هل ستحتد هذه الأزمة أكثر، أم ستكون هناك فرصة لخلق تكافل اجتماعي جديد يخفف من وطأتها؟ بسبب المخلفات الاقتصادية لأزمة كورونا سنكون أمام تدبير لن ينصب فقط على التحديات الاجتماعية لما قبل كورونا، وإنما أيضا ما سينتج عن هذه المرحلة نفسها من تحديات اجتماعية ربما ستكون أكبر من سابقاتها، لذلك، فالخيار هو إطلاق مشروع متكامل للتضامن تبعا للفلسفة التي أرساها صندوق كورونا الذي أحدث بقرار من جلالة الملك، حفظه الله، وما نتج عنه من روح عامة في التكافل والتضامن. وستمكن الإجراءات التي بوشرت من احتواء التداعيات الاجتماعية في المدى القريب، لكن علينا تقديم أجوبة بسرعة في ما يتعلق بالمدى المتوسط، أي التفكير في ما بعد يونيو المقبل، لذلك، ينبغي إرساء منظومة صحية وقائية لتمكين المقاولات المشغلة من العودة التدريجية، وإرساء آلية لدعم المقاولات في وضعية صعبة، وإطلاق الصفقات العمومية المشروطة بالحفاظ على مناصب الشغل وفق نظام الأفضلية الوطنية، وبالموازاة مع ذلك، يجب تسريع المصادقة على قانون السجل الاجتماعي الموحد لوضع آلية للدعم المالي المباشر، وفي الوقت نفسه تحفيز وتبسيط العمل التضامني والتكافلي، فروح مقاومة كورونا يجب أن تستمر بعد اجتياز هذه المحنة، حتى تكون هذه الأزمة فرصة إقلاع تنموي شامل. في ظل سيادة نوع من الخطاب يشيد بأداء السلطة في إدارة الأزمة، تتلقى الأحزاب، في المقابل، الكثير من الانتقادات بسبب ضعف أدائها أو أداء بعضها، وفق بعض الآراء. كيف تنظرون إلى هذه التقييمات؟ حتى يستطيع بلدنا ربح هذه المرحلة الاستثنائية، ينبغي أن تكون هناك تعبئة لكافة القوى خلف جلالة الملك. هذه ليست مرحلة مبادرة هذا الحزب أو ذاك، هذه مرحلة تثبيت وحدة القرار، والتعبئة لإنجاح هذه المعركة التي لا يتردد البعض في توصيفها بالحرب غير المسموح فيها بالاجتهاد الفردي، بل إن وحدة القرار والانضباط هما ما يلزم لإنجاح هذه المعركة، فبلادنا نجت من الأسوأ وتجنبت كارثة كانت محققة. الأحزاب السياسية معنية بالانخراط في مراجعات عميقة لخطابها، ولعلاقاتها بالمجتمع، والعلاقات في ما بينها، لأن عالم ما بعد كورونا يصنع الآن ولا ينتظر أحدا، وعدم استيعاب ذلك سيؤدي إلى تجاوز أي حزب بقي رهينة لما قبل كورونا، وليس فقط الأحزاب، بل قطاعات واسعة من النخب ستجد نفسها وقد تجاوزتها حركة التاريخ. هل حالة الطوارئ الصحية كانت صحية كذلك لبعض الأحزاب للتعافي من حالة «التنابز» والتلاسن في ما بينها؟ وهل يمكن أن نلحظ تغيرا في سلوكها بعد الخروج من هذه الظرفية؟ شئنا أم أبينا فإن كورونا فرضت على العديد من الأحزاب أن تنخرط في مراجعات بشكل واع أو غير واع، وأعتبر أن القلة من الأحزاب، ونظرا إلى ما راكمته من خبرات، حافظت على وتيرة معينة، وإن كانت محدودة، لاشتغالها، لكن جزءا مهما من المشهد الحزبي وجد نفسه عاجزا عن التكيف مع الوضع الجديد، وغير قادر على أن يقدم أجوبة تدخل في صميم عمل الحزب السياسي، من حيث وظيفته في إنتاج المعنى من الناحية الإيديولوجية وفي التأطير والتنظيم، فما حصل كشف هشاشة حقيقية في منظومتنا الحزبية، والواقع أنه ستنشأ عملية فرز حقيقي ليس فقط في المغرب بل عالميا، خاصة أن الشعوب تعيد قراءتها الآن لدور الفاعلين في الحياة اليومية، لذلك، فإن التحليلات التي تقول إن الأزمة كشفت هشاشة المنظومة الحزبية لا تخلو من وجاهة وصواب. من زاوية أخرى، هناك من يرى أن التركيز على انتقاد الأحزاب أو تبخيس دورها إسهام في وأد الأحزاب؟ هذا غير صحيح، يجب التمييز بين مشروعية نقد المنظومة الحزبية وبين حقيقة أنه لا يمكن تصور حياة ديمقراطية دون أحزاب. فالديمقراطية تفترض تعددية الآراء، ووجود منظومة انتخابية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهذه الأمور لا يمكن تحقيقها دون أحزاب سياسية. لذلك، فنقد الأحزاب السياسية هو من باب أن تستعيد دورها، وهذه عملية ذاتية، وما يجري حاليا يعيد الاعتبار للمواطن، الذي يعد حجر الزاوية في الديمقراطية، ولعل الحالة الألمانية واضحة، فالديمقراطية تجعل الدولة أكثر قوة، وأزمة كورونا كشفت تقدير المغاربة لدولتهم واعتزازهم بها وبمؤسساتها. ستربح الديمقراطية من الحرب على فيروس كورونا، وليس العكس، والتعبيرات الحزبية التي لن تستوعب هذه التحولات ستجد نفسها متجاوزة، ومن الوارد أن نشهد بروز تعبيرات حزبية جديدة، فاهتمام المغاربة حاليا بالشأن العام في تصاعد كبير. على ذكر الدولة، في هذه الظرفية تسود تحليلات تقول باحتمال «تغول» الدولة، بمعنى الانزلاق أكثر نحو السلطوية بعد فترة الحجر، خاصة أن السياق الدولي يهيئ الأجواء للعودة القوية للدولة المتدخلة. ما رأيك؟ لا تخدم أزمة كورونا السلطوية في المنطقة بل هي امتحان لها، لكن، في المقابل، ستكون هناك آثار جلية على الليبرالية باعتبارها نهجا اقتصاديا واجتماعيا، والأمران مختلفان. أظن أن انسحاب الدولة من قطاعات اجتماعية واقتصادية حيوية في السابق، وتبني خيارات الانفتاح اللامحدود في إطار العولمة واتفاقيات التبادل الحر، انعكسا سلبا على الصناعة الوطنية والفلاحة الوطنية، وهذا أمر يراجَع في جميع الدول. نحن، ولله الحمد، كانت لدينا بعض صمامات الأمان، من وجود عناصر الأمن الغذائي إلى حد ما، وصناعة وطنية تلبي حاجياتنا على الأقل، واعتماد منطق تنويع الشراكات الخارجية. نعم، حاليا يتبلور مطلب جماعي بدولة تدخلية، ولا أشاطر القول إننا سنشهد عودة السلطوية في المنطقة، بل العكس هو ما سيقع، وعلينا أن نحذر الخلط بين السلطوية وبين وجود دولة قوية فاعلة ومسؤولة محافظة على السيادة الوطنية، ومبادرة إلى حماية الصحة العمومية. هناك شبه إجماع على أن الثقة في الدولة تزايدت، لكن يبدو أنها لم تكن ثقة متبادلة، حيث لم نلمس إشارات باتجاه تأسيس علاقة جديدة مع الأصوات المعارضة، ومع الحركة الحقوقية التي أجمعت على ضرورة خلق انفراج عبر الإفراج عن معتقلي الرأي والحراكات الاحتجاجية؛ في حين اقتصر العفو تقريبا على معتقلي الحق العام، مع استثناءات قليلة. ما رأيك؟ أعتقد أن الثقة قائمة، وأحيل هنا على التصريح الذي صدر أثناء مناقشة مرسوم بقانون لإعلان حالة الطوارئ الصحية من أننا في سفينة واحدة، والذي لقي صدى كبيرا في المجتمع. وهي مناسبة لتجديد التنويه بالعفو الملكي السامي عن عدد من السجناء، بينهم حوالي 40 سجينا ضمن برنامج مصالحة يخص معتقلي قضايا السلفية الجهادية. هل غيرت أزمة كورونا غير المتوقعة من تصور حزبكم للنموذج التنموي الجديد؟ الوثيقة التي قدمها الحزب، مثلا، بخصوص النموذج التنموي، لا أظن أنها ستكون هي الوثيقة التي سيعتمدها بعد أزمة كورونا على ضوء هذه التحولات. والكل يتحدث عن ضرورة اعتماد نموذج تنموي جديد يستفيد من الأعطاب التي عرتها هذه الأزمة، وأيضا من الإمكانات الكامنة في الدولة والمجتمع. يلام حزب العدالة والتنمية ويشار بالأصابع في هذه المرحلة إلى بعض قيادييه الذين كانوا من المشجعين والدعاة إلى أن ترفع الدولة يدها عن الصحة وعن التعليم؟ عرفت قطاعات الصحة والتعليم خلال المرحلة التي تحمل فيها حزب العدالة والتنمية مسؤولية رئاسة الحكومة عددا من الإجراءات المناقضة لما ذكرتِه، فميزانية الصحة انتقلت من حدود 11 مليار درهم إلى أزيد من 18 مليار درهم، ومناصب الموارد البشرية، قبل فترة تدبير العدالة والتنمية، كانت تناهز 800 بقطاع الصحة، في حين تناهز الآن 4000 منصب، فضلا عن إطلاق مشروع المساعدة الطبية لأزيد من 12 مليون مغربي، كما أن أكبر عملية توظيف جرت في قطاع التعليم أحدثت ما يفوق مائة ألف منصب شغل، وميزانية التعليم كانت في حدود 48 مليار درهم، وهي تناهز الآن 72 مليار درهم. هل من يريد خوصصة التعليم والصحة سيضاعف ميزانيتيهما، وسيضاعف عدد الموارد البشرية بهما؟ نعم هناك خصاص، لكن ينبغي ألا تبخس الجهود التي بذلت، كما أن هذا الخطاب لا يقدم أدلة أو مؤشرات رقمية، بقدر ما هي دعاية سياسية مضادة. لا يمكن أن نتصور التخلي عن قطاع ما في الوقت الذي جرى رفع ميزانيته، وفي الوقت الذي ترفع فيه مناصب الشغل المخصصة له. وفضلا عن الإجراءات الصعبة التي اتُّخذت للدفاع عن المدرسة العمومية والصحة العمومية، فإن إجراء الراتب مقابل العمل، من أجل استمرارية هذه المرافق العمومية، جرى سنه واعتماده في هذه الفترة. في الفترة ما بين 2010 و2011، لاحظنا تراجع عدد المتمدرسين في التعليم العمومي، رغم ارتفاع عدد المتمدرسين الإجمالي، حيث ارتفع ب150 ألفا، لكنهم ذهبوا كلهم ومعهم 80 ألفا إلى التعليم الخصوصي، في سنة واحدة، والسبب ما عانته الأسر بسبب إضرابات التعليم العمومي في تلك الفترة. نعم، الإضراب حق دستوري، لكن الأسر تريد أن تجد المدرسة مفتوحة لدراسة أبنائها، وعندما وجدتها مغلقة، اضطرت إلى نقل الأبناء إلى التعليم الخصوصي، ولم تصحح الوضعية إلا في 2013 بعد تطبيق مبدأ الأجرة مقابل العمل. لا يمكن إلقاء كل المسؤولية على إضرابات المدرسين، هناك مشكل بنية المدرسة العمومية وإهمال المدرسة العمومية، أليس كذلك؟ أتفق معك على أنه لا يمكن اختزال الأمر في عامل واحد، لكن لا يمكن نفي المعطى الذي ذكرتُه، والذي تؤكده المؤشرات الرقمية التي أشرت إليها، وشهادات الأسر. أضف إلى ذلك مذكرة إنهاء العمل في القطاع الخاص للتعليم والصحة بالنسبة إلى العاملين في القطاع العام، رغم تعثر هذا الإجراء، للأسف، لكنه يدل على وجود إرادة لإعادة رد الاعتبار إلى المدرسة العمومية والمستشفى العمومي. ختاما، أؤكد أن مغرب ما بعد كورونا يصنع الآن، كما سبق أن قلت، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نعود إلى ما قبله، لهذا، أنا متفائل بالمستقبل.