هل يمكننا هذا “التباعد الاجتماعي” من إدراك معنى و دلالة «الجماعي”؟ لعل هذه “العزلة” التي انخرطنا فيها من خلال بوابة “الحجر الصحي”، قد تكون سببا في اطلاق دينامية جديدة في المجتمع، و بعث الروح في مفهوم التضامن و العمل الجماعي. سيتغير كل شيء حتما بعد هذه الجائحة، ولن تعود الحياة كما كانت من قبل، هذا ما نتطلع اليه، وتنتظره فئات عريضة من المجتمع. فبعض الازمات تمثل فارقا بين زمنين، وبعضها الاخر يشبه حلما مزعجا، بمجرد ما يزول، نستيقظ على ذلك الواقع الذي نحياه، ونستأنف حياتنا وننخرط في مجراها العادي و المعتاد، بكل قسوتها وأنانيتها و تفاصيلها التي تميزها في زمن ما قبل الأزمة. فقد مرت البلاد بعدة محطات، عبر الجميع خلالها عن التضامن و التآزر، و ما ان تزول المحن حتى تشتعل الساحة مجددا بالصراعات السياسية و النزاعات الأيدولوجية ، و المواجهات بين المشغل و الاجير، و سيادة خطاب الهوية …في مغرب منقسم و تحت رحمة الصراع و المنافسة والانانية السياسية، و التي تسحق الفئات الهشة و الضعيفة بشكل خاص. ولذلك وجب توخي الحذر قبل الاقدام على إصدار حكم او اتخاد موقف في هذه الظرفية: لان اعادة تقييم قيم التضامن التي افرزتها هذه الجائحة ، قد تكون مجرد اوهام. بل هي امان و انتظارات اكثر منها واقعا قابلا للحياة و الاستمرارية. لكن الدرس حاضر هنا و بقوة، وأغلبنا بدأ يستوعبه. فذلك الانسان “ما بعد الحداثي” و الذي يسعى الى عزل نفسه، و الانغماس في نزواته الفردانية، يضل اجتماعيا بطبعه، رغم انه حاول اظهار عكس ذلك، ولن يستطيع العيش بدون اقرانه. هو انسان قادر على العيش الجماعي المشترك، مقابل حقوقه الفردية، فرد لازال يتمتع و يمتلك ذلك الواجب الاخلاقي التضامني اتجاه الاخرين، و ينتظره منهم. في الحياة اليومية، وفي هذه اللحظات، و في زمن الحجر الصحي، يعيد جزء منا اكتشاف أهمية الجوار الذي افتقدناه، و يحاول كثير منا ملء ذلك الفراغ / القطيعة التي احدثتها يوميات الحياة الاجتماعية التي نحياها، لظروف العمل و السكن و “المدينة”، نكتشف تلك الحماية المادية والنفسية، التي توفرها شبكة الأصدقاء و العائلة…ونفس الشيء على المستوى السياسي: هذه الدولة التي ما لبثت تزرع فينا قيم الفردانية و المنافسة الشرسة، وتحاول زرع التفرقة بين الطبقات الاجتماعية و الثقافية، و تقدم لنا مثال الدولة الليبرالية كضرورة حتمية للعبور نحو مستقبل آمن، نراها الان تتحول فجأة الى دولة مركزية، تحتمي بقطاعات اجتماعية عمومية، و تلجأ اليها لتنقدها من هذا الخطر القادم و المحدق بنا جميعا، وترفع شعارات التضامن و المصير المشترك. هذه القطاعات التي تعتبر منقدة لنا من هذا الموت القادم و الانهيار الوشيك، هي التي كانت الى عهد قريب تصنفها الدولة عبئا زائدا وجب التخلص منه في اقرب فرصة، وتشير اليها كقطاعات غير منتجة تعيق التقدم الاقتصادي للبلاد. هذه القطاعات، هي نفسها التي تنظر اليها الان بمثابة القوة الخيرة، التي بإمكانها وحدها انقاذ البلاد المحتضرة و المواطنين المهددين. لم تعد الدولة تشتكي من كلفتها، و لكنها تبكي قلة تجهيزاتها و نذر أطرها. هل هذا الاهتمام نابع من ايمان الدولة ‘الفجائي” بمبدأ التأميم وضرورة اعادة النظر في اقتصاد السوق؟ الجواب قطعا: لا. فإقفال عدة محلات للتسوق و غلق المقاهي و الفنادق و المطاعم، وصد ابواب مصحات و مدارس خواص، وهي كلها مؤسسات خاصة، يشكل اجراء “محزنا” لأصحابها، وهم يرونها وقد انتزعت منها الحياة…ولكنها اجراءات اقتنعت ب الدولة عدم جدواها الآن. هذه الاجراءات، من الواضح انها لن تحد من الليبرالية الاقتصادية، ولكن لها دلالة عميقة في مثل هذه الظروف، و مؤشر عما يجب عمله . فهي تذكرنا ان الحرية الاقتصادية لن تستعيد توازنها الانساني بدون انخراط شعبي واع، في اتجاه التحكم في الفيودالية المالية، والامساك بذلك الخيط الموجه، بمثابة الدليل نحو الديمقراطية الحقة، ديمقراطية تحمينا جميعا من شجع الرأسمال. في ضل “كورونا”، نحس أيضا بتلك التراتبيات و التفاضليات الاجتماعية المغلوطة. من يقف الآن في الجبهة الامامية؟ انهم أطر التمريض والاطباء والأطقم الصحية، في المقام الاول. وهي منقطعة لخدمة الصالح العام، و نكران الذات. انها أيضا تلك “الايادي النظيفة و البيضاء” من عمال النظافة وبقال الحي و جموع الاساتذة و الاطر التربوية، و عمال وأطر الماء و الكهرباء، وسائقو شاحنات نقل البضائع، و الفلاح المكد في ضيعته او في ضيعات الاستغلال، وغيرهم… هؤلاء كلهم و وحدهم يغامرون بصحتهم و حياتهم كي يضمنوا لنا استمرار الحياة و الخدمات، حتى نهنأ في “حجرنا الصحي” داخل منازلنا. انه وجه اخر من “الانقلاب الكوروني”، نختبر به ارتباط بقائنا بفئة لا يلتفت اليها أحد، و لا تساوي شيئا في مجتمع “الرأسمال”، و رغم ذلك يعتمد عليها الجميع. بدأنا نعي الدور المفصلي و المهم، لهؤلاء الابطال الذين يخالهم الجميع انهم لا يقومون باي دور يذكر. بدانا نفهم ان كل تلك التصنيفات غير المنصفة، ليست اخطاء أخلاقية فقط، بل هي عاهات اجتماعية تغذيها وسائل الاعلام الرسمية و ترسخها الممارسات اليومية، وتعيق بناء مجتمع سليم. ترى هل يمكن ان يؤدي هذا الوعي المستجد الى تغيير حقيقي؟ ربما. لكن شريطة ان يفضي هذا الادراك الاخلاقي الذي أيقظته فينا “كورونا”، الى تغيير سياسي ملموس. و ان يخلخل بعض المسلمات السياسية التي تؤثر على العادات الانتخابية لفئة عريضة من هذا الشعب. قد يؤدي الى تحول، اذا استطعنا في وعينا ان نفضح من ألقى بالتعليم و الصحة و القطاع العمومي في سوق التداول اللبرالي، و باع أهم قطاعات حيوية للأمة المغربية، مقابل امتيازات مادية آنية له و لعشيرته و مريديه الاقربين. قد ينتج تغييرا ان لم ننسى من باعوا الوطن قبلهم، من أحزاب و اباطرة و سماسرة التقويم الهيكلي و تبعاته. مصير الشعب بيده، له ان يختار كيف سيعيش: أن يختار بين ما بعد “كورونا أجمل”، و بين “كورونا” نفسها.