بين الفينة والأخرى وكلما ارتأى نظر السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض أن هناك مسألة تستدعي إثارة الانتباه، أو أن هناك نوع من التوجيه يجب القيام به، إلا ويلجأ إلى توجيه كتاب إلى السادة المسؤولين القضائيين مثيرا انتباههم إلى مسألة ما، وكما هو معلوم فالسيد الرئيس الأول لمحكمة النقض يجمع بين صفتين صفة أولى والمتمثلة في كونه على رأس الرئاسة الأولى لمحكمة النقض، وصفة ثانية وهي صفته كرئيس منتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، هاتان الصفتان ترتبطان ارتباطا غير قابل للتجزئة، وعدم القابلية للتجزئة يتجلى في أنه وبنص الدستور فالرئيس الأول لمحكمة النقض هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، خاصة الفصل 115 منه والذي جاء فيه: ” يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويتألف هذا المجلس من: – الرئيس الأول لمحكمة النقض، رئيسا منتدبا. – …” وهذا الارتباط غير القابل للتجزئة كما أشير غير قابل للتجزئة من حيث الشخص، قابل للتجزئة من حيث المهام و الاختصاصات إذ لكل من تلك الاختصاصات والمهام فلكها الخاص الذي تجري فيه . ولئن كانت المناسبة شرطا، فإن مناسبة هذا الكتاب المسطور هو الكتاب الذي يصدره بين الفينة والأخرى، السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية موجها إياه إلى السادة المسؤولين القضائيين. وعلى سبيل المثال أصدر السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الكتاب المرقم 1/12 موجها إياه إلى السادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف، موضوعه حول معهد العلوم والأدلة الجنائية للأمن الوطني. الكتاب 151/1 الموجه إلى السيدات والسادة الرؤساء الأولين لمختلف محاكم الاستئناف، ورؤساء المحاكم الابتدائية والتجارية والإدارية، موضوعه تنظيم العمل بالمحاكم للوقاية من وباء كورونا. المذكرة المرقمة 113/3 الموجهة إلى الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف ورؤساء المحاكم الابتدائية، موضوعها قضايا المعتقلين. الكتاب المرقم 119/3 الموجه إلى السادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف، والسادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف التجارية، والسيدين الرئيسين لمحكمتي الاستئناف الإدارية، موضوعه تهيئ القضايا لمرحلة ما بعد رفع حالة الطوارئ الصحية. ولئن كانت هذه الكتابات تختلف من حيث المسؤولين الموجهة إليهم حسب المصلحة والغاية من وراء الكتاب إلا أنها كلها لها خصائص مشتركة. إن الخصائص المشتركة تتجلى في كون الكتاب وحسبما هو ثابت من رأسيته صادر عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بينما التوقيع في بعض من الكتابات المذكورة يكون بصفة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى السلطة القضائية لوحدها، كما هو الشأن في الكتاب 12/1 والكتاب 151/1 والمذكرة 113/3، وثارة أخرة يكون بالتوقيع بالصفتين مجتمعتين صفة الرئيس الأول لمحكمة النقض، وصفة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية. وفي اعتقادي ليس الخلاف أو ليست المناسبة هي لماذا في كتاب اجتمعت الصفتان معا بينما حضرت صفة وتخلفت أخرى في كتاب آخر، بل أتساءل عن أي الصفتين أكثر صلاحا لأن يخاطب بها السادة القضاة. بالرجوع إلى فصول الدستور فالمجلس الأعلى للسلطة القضائية مؤسسة دستورية تسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم. وهو ما سارت على هديه القوانين الناظمة لعمل للمؤسسة، أو ذات الصلة بها كالقانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية 100.13 والقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة 106.13 والنظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبالتالي ومادام مضمون المذكرات والكتابات وفحواها بعيدا عن الحياة المهنية، والوضعية الفردية للسادة القضاة، اعتقد أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ليس من صلاحيته مخاطبة السادة القضاة بعيدا عما تضمنته فصول الدستور والقوانين الناظمة للموضوع المتعلقة باختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية. والأكثر من هذا فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية مجلس يهم القضاة ككل لا فرق بين قضاة الرئاسة وقضاة النيابة، بينما الكتابات المشار إليها موجهة فقط إلى المسؤولين القضائيين في قضاء الرئاسة. ولئن ثبت ما سبق وانتهينا إلى عدم صلاحية السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في توجيه تلكم الكتابات حق لنا أن نتساءل هل مؤسسة السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض مخول لها ذلك، وإذا كان الجواب نعم، هل السند هو مادام الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ليس من صلاحيته بالتالي فالصلاحية تنعقد للرئاسة الأولى لمحكمة النقض في شخص السيد الرئيس الأول ؟ أم أن هناك سندا يمكن الاستناد عليه في مخاطبة السادة القضاة أو المسؤولين القضائيين؟ بالرجوع إلى قانون التنظيم القضائي للمملكة لاسيما في فصله 15 خاصة الفقرة الثانية منه فإن السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض له سلطة الإشراف حيث جاء في الفصل المذكور: ” يسهر الرئيس الأول لمحكمة النقض على إنجاز القضايا في أحسن الظروف وعلى حسن سير مصالح كتابة الضبط لمحكمة النقض. ويشرف على المستشارين بمحكمة النقض وعلى الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف الإدارية والرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف التجارية.” فسلطة الإشراف مخولة قانونا للسيد الرئيس الأول لمحكمة النقض ويمارسها تجاه الرؤساء الأولين لمختلف محاكم الاستئناف بالمملكة. ولئن كان قانون التنظيم القضائي للمملكة لا يعطي صراحة سلطة الإشراف للرئيس الأول لمحكمة النقض على رؤساء المحاكم الابتدائية ورؤساء المحاكم التجارية ورؤساء المحاكم الإدارية ولئن أناط القانون تلك الصلاحية بشكل صريح بالرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف حسب الفصل 17 من قانون التنظيم القضائي، وحسب الفصل 19 من ذات القانون، فإن سلطة الإشراف تلك تستمد من كون مادام الرئيس الأول لمحكمة النقض يشرف على الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف ومادام الأخيرون يشرفون على المستشارين العاملين بالمحكمة التي يرأسونها و يشرفون على جميع قضاة الرئاسة بالدائرة القضائية، فإن للرئيس الأول لمحكمة النقض ما للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف و ما لرئيس المحكمة الابتدائية ما لهما من سلطة الإشراف له – الرئيس الأول لمحكمة النقض – له تلك السلطة وزيادة. بل وبعيدا عن انعدام النص الصريح في الإشراف على المذكورين سلفا فالرئيس الأول لمحكمة النقض باستطاعته ممارسة الإشراف على الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف وسلطة الإشراف المخولة يتم عكسها على من يشرفون عنهما بناء على توجيهات الرئيس الأول لمحكمة النقض. وعليه أعتقد أن الأقرب للصلاح أن صلاحية مخاطبة القضاة في غير ما يتعلق بحياتهم المهنية لا تنعقد للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في شخص السيد الرئيس المنتدب وإنما تنعقد للرئاسة الأولى لمحكمة النقض في شخص السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض.