يشخّص الخبير الاقتصادي، نجيب أقصبي، في هذا الحوار، انعكاسات أزمة فيروس كورونا على الاقتصاد المغربي، معتبرا أنها جاءت لتعمّق أعراض أزمة كانت تلوح أصلا في سماء المغرب، بسبب ضعف التساقطات المطرية، واستمرار خيارات اقتصادية كبرى قال إنها لا تخدم المصلحة الاقتصادية للمغرب. ما تأثير أزمة فيروس كورونا على الاقتصاد المغربي؟ بالنسبة إلى الاقتصاد المغربي يجب أن نعرف أن هناك أزمة ذاتية، وطبعا هناك أزمة متعلقة بالاقتصاد العالمي، ولكي نكون واضحين، مرتبطة بالاقتصاد الأوروبي. قبل مجيء كورونا، وتحديدا منذ فبراير المنصرم، ظهرت مع الأسف بوادر الجفاف، أي أن السنة ستكون سيئة على المستوى الفلاحي، وهذا أمر ندركه وجربناه وهو أن سنة الجفاف ليست فقط، سنة سيئة على العالم القروي والقطاع الفلاحي، بل على الاقتصاد برمته. الإنتاج الفلاحي في هذه الحالة ينهار والطلب، كذلك، لأن المداخيل تنقص في العالم القروي في حالة الجفاف، وبالتالي، الطلب، كذلك، فيدخل الاقتصاد كله في حالة من الانتظارية، إذ أمام انخفاض الإنتاج فحتى من له إمكانيات يقوم بالادخار ولا يستهلك. أي أن الأزمة قائمة قبل وصول كورونا؟ نعم، فعلى الصعيد الداخلي هناك أزمة عرض وطلب مسبقة، وأزمة كورونا بدأت بأزمة عرض وتطورت إلى أزمة طلب لأنه ليست هناك مداخيل مالية تمكن فئة من المواطنين من الاستهلاك، وهذا يبرز هشاشة الاقتصاد المغربي، حيث انعدام آليات تمكن من ضبط إمكانيات عيش المواطنين، كما في دول متقدمة حيث الدولة الراعية، أي نظام تزويد المواطنين بمدخول يعزز الطلب في مستوى معين. هذه الآلية غير موجودة في المغرب، ما يجعل أن حتى أزمة كورونا بدأت بأزمة عرض، أي توقيف الإنتاج، لكن تطورت بسرعة إلى أزمة طلب كذلك، بسبب عدم إمكانية جزء كبير من المغاربة (وسنعود لما جرى توفيره من مداخيل لاحقا)، الذين طلب منهم البقاء في البيوت، أي التوقف عن العمل، من ضمان عيشهم. هذا الجزء من المغاربة يعتمد على العمل اليومي كي يعيش، تسبب إجراء الحجر الصحي في أزمة طلب لديه، ومن هنا هذه الأزمة المزدوجة للطلب والعرض. كيف انعكست الأزمة الخارجية أزمة المغرب الأصلية؟ تتسرب الأزمة الخارجية من خلال الداخل المغربي على الأقل، عبر أربع قنوات وهي: التجارة الخارجية والسياحة وتحويلات المغاربة بالخارج والاستثمارات الأجنبية. في الوضع الحالي هذه القنوات هي التي تغذي، ليس فقط رصيد العملة الصعبة، ولكن أيضا قنوات الاقتصاد الداخلي المغربي. فمثلا، تحويلات المغاربة بالخارج لا تغذي فقط، رصيد العملة، ولكنها تضمن عيش مئات آلاف العائلات، أي أنها تدعم الطلب الداخلي. فهناك دواوير في العالم القروي تعيش فقط، على ما يُرسل إليها من فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا، ومن سوء حظنا أن الشركاء الرئيسيين لنا في كل هذه القنوات هم الأكثر تضررا في هذه الأزمة: إسبانيا وفرنساوإيطاليا، أي ما يسمى بالقوس اللاتيني.. هذه الدول نعتمد عليها في التجارة الخارجية وتحويلات المغاربة المقيمين بها وفي السياحة والاستثمار، وكلها دخلت في أزمة عميقة. في أزمة 2008 أثرت هذه القنوات في تصريف الأزمة للمغرب، ولكن ليس بهذه الحدة لأن هذه الدول لم تعش الأزمة بالحدة التي تعيشها الآن. فإذن، نحن لم نبق فقط، في مستوى أزمة داخلية، وإنما وجدنا أنفسنا في أزمة متسربة من الخارج من شركائنا الرئيسيين. هل كانت للمغرب خطة اقتصادية للتعامل مع الحالات الاستثنائية كالحرب أو الكوارث أو الأوبئة ؟ مع الأسف، هذه الأزمة مثل مرآة مكبرة تظهر المشاكل بطريقة كاريكاتورية، الوباء العالمي هو أمر واقع عالميا، لكن القدرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية الناتجة عنه، طبعا تختلف حسب جاهزية الاقتصاد، وحسب التوجهات الرئيسة والاستراتيجية التي اتخذناها أو لم نتخذها في السابق كي نواجه مثل هذا الوضع. ما نعيشه الآن، لم ينزل من السماء، بل هو نتيجة اختيارات خاطئة. 60 عاما بعد الاستقلال ولازالت التقلبات المطرية تتحكم في الإنتاج الفلاحي الذي يتحكم في مآل الاقتصاد برمته، هذه معادلة مأساوية لا علاقة لها بكورونا، بل مرتبطة بالسياسة الفلاحية الخاطئة، هذا أحد أوجه الأزمة. وهناك مثال آخر وهو أنه اعتمدنا في القنوات التي سربت الأزمة على الانفتاح غير المعقول وغير المدروس على السوق الدولية، حيث راهنا على التصدير وعلى الاندماج في العولمة دون أن نحصن اقتصادنا، فوجدنا أنفسنا الآن عراة أمام الأزمة، أزمة الآخرين لا تنعكس علينا فقط، بل تتضاعف مع أزمتنا. ما هي القطاعات التي تشكل العمود الفقري للسيادة الوطنية في مثل هذه الأزمات تحديدا؟ من بين الاختيارات الخاطئة التي نهجها المغرب منذ الخمسينات، هي أننا راهنا على توظيف مواردنا الطبيعية والبشرية ليس من أجل تلبية حاجيات الطلب الداخلي أولا، بل من أجل تلبية حاجيات الطلب العالمي أولا. في الفلاحة مثلا، عوض أن نوظف إمكانياتنا لإنتاج ما نستهلكه كالقمح مثلا والزيوت والسكر، وعوض توظيف إمكانياتنا لضمان حد أدنى من السيادة (لا أتحدث فقط، عن الأمن)، لم نقم بهذا، بل وظفنا إمكانياتنا لننتج مثلا الخضر والفواكه الموجهة للسوق الدولية.. النتيجة هي أنه اليوم مع الجفاف فالحاجيات الأساسية هي التي تتضرر أولا، فالجفاف يضر أولا بالقمح وبإنتاج المواد الأساسية، وما يمكن أن نصدره حتى لو كانت لدينا إمكانيات إنتاج لذلك، فمع أزمة الوباء ليست هناك لا إمكانيات لوجستيكية ولا حتى طلب من أوروبا لفعل ذلك. الأزمة أوقفت كل شيء. ولكن في الوقت عينه يجب أن نأكل، المغاربة في حاجة إلى ما يقارب 60 مليون قنطار من القمح، وما يقارب 500 ألف طن من السكر يجب أن نجلبه من الخارج، ونحو 90 في المائة من حاجياتنا من الزيوت النباتية يجب أن نستوردها، سواء أكانت الإمكانيات أو لم تكن، أو كانت الأزمة أو لم تكن، يجب أن نستوردها. إذن، هذا هو مشكل السيادة التي نفتقدها وهي أن حاجياتنا لا محيد عنها، نحن ملزمون للاقتراض كي تكون لنا إمكانيات للاستيراد، ولكن ما لدينا للتصدير الآن، لا يصلح لشيء.. وهنا سأعود لقطاع السيارات حينما قلت إن الحديث عن المغرب أنه صار رائدا في هذا القطاع، فالمغرب ليس هو من يصدر رونو أو يصدر بوجو، من الأصح أن نقول إن رونو تُصدر من المغرب سياراتها، والفرق هو ما ظهر الآن. هل حينما قررت رونو وبوجو إغلاق معامل طنجة والقنيطرة طلبوا الإذن من الحكومة المغربة؟ هل استشاروا معها؟ أظن أن هذا الوضع لا نعيشه في المغرب فقط، فمسألة السيادة في المرحلة التي بدأت فيها “فلسفة” اندماج الاقتصاديات والتبادل الحر، بدت وكأنها لا تجاري التطور التاريخي؟ صحيح، إن كان من فائدة لهذه الأزمة فهي إعادة النظر في بعض الأفكار التي كانت تعتبر مسلمة، هذا أمر سيكون إيجابيا، هذه الأزمة أظهرت حماقة الإيديولوجيا التي انتصرت منذ ثمانينات القرن الماضي، والتي كانت تريد إيهامنا بأن السوق الدولية تحل كل شيء ولا حاجة لأن تكون لدولة ما السيادة على أي منتج معين، المهم هو أن تكون لديك العملة والسوق الدولية ستزودك بما تريد في أي وقت كان. هذه الأسطورة انهارت الآن بالنسبة إلى الجميع. ففي أوروبا مثلا الآن، وإن كان المشكل لا يُطرح لها بالحدة نفسها مما هي لدينا، اكتشفوا أن في مسألة الدواء أن نحو 80 في المائة من الأدوية تأتيهم من الصين والهند، وحتى بعض الصناعات المتقدمة فالمادة الأولية الأساسية في صناعة الحواسيب والهواتف.. الصين هي من تحتكرها. هل يجب على المغرب أن يعلق تسديد الديون ويوجه تلك الأموال لإنقاذ البلاد من الأزمة.. ألا ترى أنه إجراء ضروري؟ بما أن هذه الديون لم يكن لنا من خيار آخر أمامها، فهذا يجعل المفاوضات مع الدائنين لا الداخلين ولا الخارجيين يطرح مشكلا بحكم هذا الوضع. الآن، دخل المغرب في مسلسل الخط الائتماني الذي يشكل بمثابة تأمين، حيث يقول لك صندوق النقد الدولي إن هناك قدرا من رؤوس الأموال تحت تصرفك، لكن لا يمكن استعمالها إلا في ظرفية يكون فيها مشكل كبير، هذا الخط نؤدي عنه منذ 2012 مئات ملايين الدولارات، ولكن لا نستعمله. إذن، لدى المغرب ما يغطي به الآن هذه الأزمة؟ نعم، هذا وضع يجب أن نستعمل فيه هذا الخط، لكن المسؤولين لم يقولوا أي شيء عن سعر الفائدة والكلفة، لماذا الحديث عنه مهم؟ فإذا كنا منذ سنوات ونحن نؤدي، فيجب أن نحظى الآن بهذا القرض بثمن رمزي، أما إذا كان بشروط الظرفية، فهذا يعني أننا كنا نؤدي هباء منثورا، كنا نعيش ثمانية سنوات في سياسة تقويم هيكلي غير معلن. المشكل المطروح هو أن رصيد العملة الصعبة غير كاف، 25 مليار دولار غير كافية، رغم ما يقولون بأن لدينا ما يكفي لخمسة أشهر من الواردات.. هذا كذب، هذا مجرد كلام والواقع يظهر أن هذا الكلام مغلط للرأي العام. اللجوء إلى الاقتراض الهاجس المتحكم فيه هو رصيد العملة الصعبة، لأن تعويم الدرهم قد يؤدي إلى انخفاض الدرهم، لكن هذا القرض سيكفي أمام إمكانيات انهيار العملة.. وستصير الأزمة أزمة طلب وعرض وأزمة الدرهم .. الآن، يجري التقليل من الواردات، ولكنه يظل حلا ترقيعيا، وفي حالة إذا لم يكفي القرض سيتم اللجوء إلى قرض آخر، وهذا يدخلنا في نفق خطير. ما تأثير هذه الأزمة على الاحتقان الاجتماعي؟ هل من شأن الأزمة أن تخفف منه لأن هاجس الجميع هو النجاة من الوباء أم يمكن أن تعمقه؟ حين لا يتم القيام بالإصلاحات في وقتها ونكون تحت الضغط فنحن نؤدي الثمن غاليا، هناك ملايين المغاربة الذين يعيشون بعملهم اليومي، وهم الآن لا يمكنهم القيام بذلك، وإذا قدر الله، فالمشكل سينطلق من هذه الشريحة. في آخر المطاف نهجت الدولة حلا جرى تقديمه منذ سنوات وهو الإعانة المباشرة حينما جرى طرح مسألة إصلاح صندوق المقاصة، في ذلك الوقت رُفض هذا الأمر لأغراض أخرى وجرى تعليله بأسباب ظهر الآن أنها واهية بعدما اعتمد هذا الخيار. آنذاك وقعت أزمة سياسية مفتعلة مع انسحاب حزب الاستقلال من حكومة عبد الإله بنكيران .. وفي ظل هذه الظروف، نجد أنفسنا أمام مفارقة، فعلى الرغم من أنه هناك نسبيا أموالا في صندوق كورونا، فهناك مشكل ضبط اللوائح والطريقة التي سيتم بها التوزيع، وهذا كان يمكن أن يكون جاهزا منذ سبع سنوات.. وكان سيتم حل المشكل منذ الأسبوع الأول للأزمة الحالية وكان سيقلص من الاحتقان الاجتماعي، لكن رغم التأخر فاقتناع الدولة بهذا الأمر يظل أمرا إيجابيا، إلا أن عدم ضبط اللوائح وعدم تجهيزها في وقت الرخاء يجعلنا نتساءل، هل ستصل الإعانة إلى كل من هم في حاجة إليها في هذا الوقت العصيب؟ لا أدري؟ هل يمكن بناء الاقتصاد المغربي على أسس جديدة؟ من يتحدثون عن النموذج التنموي البديل يجب أن يعوا أن المشكل في الخيارات الكبرى، إنه يكمن في غلبة القطاع الخاص على العام والرهان على أنه سيحل المشكلات الاجتماعية، أظهرت التجربة أن هذا الرهان خاسر منذ ثلاثين سنة، ليس لنا قطاع خاص يمكن أن يلبي الحاجيات الحقيقية للتعليم والصحة والمرافق العمومية الأساسية، وهذا ظهر بكل وضوح الآن، والرهان على الانفتاح العشوائي على الخارج، أيضا، خسرناه من قبل، الأزمة فقط، عرته. وإذا لم يأخذ هذا النموذج بعين الاعتبار هذا الواقع، ولم يعد النظر في الخيارات، فسنعيد إنتاج الواقع المأزوم عينه.