أن ينال مخترع أو أديب أو مفكر احترام الناس فهذا شيء طبيعي، لكن أن ينال محتال الاحترام فهذا يبعث على الاستغراب. والشخص الذي يتحدث عنه الجميع في إسبانيا اليوم بإعجاب هو شاب في الثالثة والثلاثين من العمر، كل إنجازه ينحصر في قضائه ثلاث سنوات يراكم الديون من البنوك إلى الحد الذي وصل إلى دين قدره 492.000 أورو سحبها من 39 بنكا عن طريق 68 قرضا. المشكل ليس في القروض، ولكن في كون «إنريك دوران» لم تكن لديه أبدا نية تسديد القروض التي كان يأخذها من البنوك. يعني أنه «كان ناوي على خزيت» منذ البدء. فهذه كانت هي طريقته الوحيدة للانتقام والسخرية من البنوك، المتسبب الرئيسي في الأزمة المالية العالمية. وهكذا استغل صاحبنا التسهيلات الكبيرة التي كانت تقدمها البنوك لكي يقترض أقصى ما يمكن من المال. وذهب إلى حد تأسيس ثلاث شركات وهمية، وعندما سألوه كيف استطاع استغفال كل هذه البنوك بكل هذه السهولة، قال إنه بمساعدة «السكوتش» ومقص وآلة «فوطوكوبي» يمكننا صنع الأعاجيب. في المغرب يستحيل على أي محتال مهما بلغ به «التقوليب» أن يحتال على كل هذه البنوك دفعة واحدة. فالبنوك المغربية لا تغامر بإعطاء قروض دون أن «تكفن» طالبها بالبنود المعقدة كما ينبغي. وأتحدى أي طالب قرض مغربي إن كان قادرا على إتمام قراءة العقود التي يوقعها مع بنكه قبل تسلم قرضه. وحتى إن كان هناك من يكمل قراءة هذه العقود إلى آخر سطر فيها فإنني أتحداه أن يقنعني بأنه فهمها. هذا لا يعني أن أمثال هذا المحتال الإسباني لا يعيشون بيننا في المغرب. عدا أنهم لا يحتالون على البنوك وإنما على إخوانهم المغاربة. والمغربي هو الكائن البشري الوحيد الذي يمكن أن يطلب منك قرضا دون أن يحدد تاريخ إعادته، فهو يقول لك مثلا «عطيني واحد ألف درهم حتى ندير». وطبعا فهو لا يقول لك «آش غادي يدير». وأمثال هؤلاء يمكن أن تعثر عليهم في كل مكان، ومنهم موظفون لديهم رواتب شهرية محترمة، لكنهم لا يستطيعون الشفاء من «بلية» اقتراض المال دون نية إرجاعه. اليوم في أوربا وأمريكا الجميع «باغي الخدمة فالبنكة». وفي فرنسا هناك حملات منظمة من طرف بعض الكوميديين لتأليف أغان ساخرة تدعو إلى التبرع للبنوك بالمساعدات لكي تتجاوز أزمتها المالية. أما في المغرب فالبنوك تمر من أسوأ مراحلها هذه الأيام. فبعد قرار وزير الخارجية إغلاق العشرات من وكالاتها بسبب عدم احترامها للمقاييس الأمنية، هاهي اليوم تشكو من جفاف في السيولة. وعوض أن تعترف البنوك بأن ظهرها أصبح للحائط، فكرت في حل ذكي لكي تعطي الانطباع بأنها منخرطة في خطة دعم الجالية المغربية المقيمة بالخارج. وهكذا أعلنت جميع البنوك أن تحويلات الجالية من العملة الصعبة باتجاه المغرب ستصبح معفاة من الأداء. ولأول وهلة يبدو الأمر في صالح الجالية المغربية المقيمة بالخارج، لكن عندما نعرف أن احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي انخفض من 11 شهرا إلى 6 أشهر فقط في ظرف سنة واحدة، نفهم أن إعفاء الجالية من رسوم تحويل العملة الصعبة نحو المغرب لم يكن من أجل سواد عيون أفرادها، ولكن بسبب سواد الوضعية التي يعيشها بنك المغرب هذه الأيام. والذي رغم سواد وضعيته فإنه يجد الوقت والأموال الكافية للاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيسه في أفخم فنادق مراكش. ولعل الصورة التي تعطيها بعض المؤسسات العمومية وهي تحتفل بالذكرى الخمسين لتأسيسها هي صورة سفينة «الطيطانيك» وهي تغرق ببطء فيما ركابها يقرعون كؤوس «الشامبانيا» ويرقصون على أنغام الموسيقى الكلاسيكية. فبنك المغرب، الذي احتفل بمرور خمسين سنة على تأسيسه من طرف حكومة عبد الله إبراهيم، يشكو من نقص خطير في احتياطي العملة الصعبة. أما صندوق الإيداع والتدبير الذي أطفأ شمعته الخمسين قبل أيام في حفل بهيج، فقد وصل إلى هذا العمر المتقدم وهو يرى أرباحه تتراجع بموجب سنة 2008 بحوالي 62،4 في المائة. ومع ذلك نرى كيف يساهم هذا الصندوق الذي يدير أموال اليتامى والأرامل في حل أزمات شركات أجنبية، كما صنع مؤخرا مع شركة «كلوب ميديتيراني» الفرنسية عندما شارك في رفع رأسمالها بعشر ملايين أورو في اجتماع للمجلس الإداري عقده «باكو» (اسم الدلع للباكوري) على «النبوري». وهذه المؤسسات العمومية التي تحتفل بأعياد ميلادها الخمسين على إيقاع الأزمة يحق فيها المثل المأثور الذي يقوله المغاربة «يوم عيدكم يوم جوعكم». وهكذا ففي الوقت الذي تفر فيه الشركات الأجنبية والمستثمرون العرب من المغرب تاركين وراءهم أطلال مشاريعهم الضخمة، بسبب الأزمة العالمية، نرى كيف تسارع شركاتنا العمومية إلى إنقاذ «البراني» ومساعدته بأموال المغاربة على تجاوز الأزمة. وعندما تشرع البنوك المغربية في نظم قصائد الغزل في حق الجالية المغربية المقيمة بالخارج في هذه الظروف الصعبة، فليس لأنها «مزعوطة» في هذه الجالية، وإنما لأنها «مربوطة ربطة زغبية» في العملة الصعبة التي تعودت إرسالها كل شهر. فهذه العملة هي قشة الخلاص التي يمكن أن تنقذ البنك المركزي بعد سحب الشركات الأجنبية الكبرى في المغرب لأرباحها السنوية وإرسالها بالعملة الصعبة إلى حسابات الشركات الأم الموجودة في أوربا. فالأزمة المالية التي تعيشها هذه الشركات الكبرى في عقر دارها بأوربا جعلتها تطالب فروعها في دول العالم الثالث، ومنها فروعها بالمغرب، بإرسال كل أرباحها بالعملة الصعبة. وهكذا، ففرع شركة «فيفاندي» بالمغرب أرسل لوحده إلى فرنسا قبل أيام حوالي خمسة مليارات من الدراهم. وقس على ذلك فرع شركة «إطالسيمونتي» المعروف باسم «إسمنت المغرب»، وغيرها من فروع الشركات العالمية الكبرى المتواجدة بالمغرب، والتي حققت السنة الماضية أرباحا قياسية. وهنا لا يجب أن نلوم هذه الشركات العالمية التي تمتص فروعها بالمغرب مخزون البنك المركزي من احتياطي العملة الصعبة، فالعقود التي وقعها السي فتح الله والعلو معها عندما كان وزيرا للاقتصاد والخوصصة تنص على هذه البنود. وهي البنود التي ظلت سرية منذ إدخال تلك الشركات الرأسمالية (زمن الحكومة الاشتراكية) إلى مدن المغرب. فلا أحد، سوى والعلو والراسخون في العلم، يعرف على وجه الدقة التسهيلات والإعفاءات التي تتمتع بها هذه الشركات الأجنبية في مجال نقل أرباحها السنوية بالعملة الصعبة إلى الشركات الأم بأوربا. يستطيع صلاح الدين مزوار، وزير المالية في حكومة عباس، أن يستمر في تغطية الشمس بالغربال، مكذبا كل الأرقام والمؤشرات التي تؤكد معاناة المغرب بشكل حاد من تبعات الأزمة العالمية. فصلاح الدين لن يكون أكثر دقة ومصداقية من معهد «سرفكرب» الذي صنف المغرب مؤخرا ضمن أكثر الدول تأثرا بالأزمة المالية العالمية، باحتلاله المرتبة 30 من أصل 36 دولة. ولعل المسؤولية الأخلاقية والواجب الوطني يحتم على وزير المالية أن يصارح الرأي العام بأن البلاد تعرف اليوم حالة من الجفاف المالي غير المسبوق. إلى درجة أن البنك المركزي يلجأ إلى ضخ عشرات الملايير من الدراهم أسبوعيا في حسابات البنوك «الجافة». على سعادة الوزير، الذي ذهب إلى فندق «لابالموري» بمراكش ليطفئ شموع عيد ميلاد بنك المغرب الخمسين، أن يمسح «كريم» الحلوى من شفتيه وأن يقول لنا إلى متى سيستمر هذا الوضع بهذا الشكل، وما هي الحلول العاجلة لإيقاف هذا النزيف المالي الذي يتسرب من شريان مفتوح اسمه بنك المغرب. أما «واحد» عباس الفاسي فلا أحد أصبح يعرف هل هو موجود في الحكومة أم في الطائرة. ومع ذلك تبقى لعباس فضيلة واحدة، وهي أنه استطاع أن يحقق الإجماع حول كونه الوزير الأول الأضعف في تاريخ الحكومات المغربية منذ الاستقلال وإلى اليوم. وهذا في حد ذاته إنجاز يحسب له. أو علينا ربما...