ما حيرني في اللص الظريف صبحي درويش الذي يجب أن يطلب رأسه للعدالة ويكون مصيره خلف القضبان ولكن العالم العربي جثة تمرح فيها الجراثيم، ومتى كانت للجثث مناعة ضد القوارض والفيروسات والبكتريا؟؟ كتاب المائة الأعظم في التاريخ الإنساني هو ل(مايكل هاردت)، عالم الفلك الأمريكي، ولكن شاء كاتب عربي أن يرصع اسمه فوقه، والكاتب العربي لا تنقصه شهرة، ولكن شهوة الشهرة قاتلة.. وقبل أيام، أرسل إلي أصدقائي، من موقع كفر نبل من سوريا، أن لصا مدربا بأشد من الكلاب البوليسية (يلطش) مقالاتي بالجملة والمفرق. ولما فتحت موقع الحوار المتمدن ذهلت من كمية المقالات المسروقة، وأحيانا بنفس العنوان، ولأنني، ولضيق وقتي، لا أتفرغ لمطاردة أمثال هذه القوارض البشرية التي لا تقرض الشعر بل المقالات وكاملة!! وكل ما تحتاج إليه هو ماوس وكي بورد ومسح ولصق ثم تذييل المقالة باسم صبحي درويش.. لقد أذهلني الدرويش هذا، فهو لص كبير وليس درويشا بحال، وحين تأملت إحدى المقالات المسروقة من ضمن عشرات، تعجبت من جرأته ووقاحته وتهوره أيضا؟؟ ثم عمدت فوضعت المقالة هذه المرة تحت العدسة المكبرة لردها إلى مظانها، حتى لا أظلمه، عرفت فورا كلماتي كما أعرف أولادي، ثم بدأت أبحث عن أمكنة السرقة؟؟ لقد قام علي الزيبق هذا بالسرقة على الشكل التالي: فقد سرق العنوان وأضاف إليه كلمتين، فأصبح سر الديمقراطية وأبجديات النظام الشمولي، وكنت قد نشرت المقالة في جريدة «الشرق الأوسط» بعنوان «التنظيم في ظل الأنظمة الشمولية» (العدد 8583 تاريخ 29 مايو 2002م)، وهي في الأصل مقالة عن وزير دفاع سابق في نظام جملوكي شرق أوسطي، قامت (سوزانه كليبله) من مجلة «در شبيجل» الألمانية بمقابلته ونشرت المقالة بعنوان «جدول ضرب أو ألف باء الديكتاتورية»، وعمدت أنا إلى نشره بعنوان «أبجديات النظام الشمولي ووصفة الخلاص منه». لكن ما حيرني في اللص الظريف صبحي درويش، الذي يجب أن يطلب رأسه للعدالة ويكون مصيره خلف القضبان، ولكن العالم العربي جثة تمرح فيها الجراثيم، ومتى كانت للجثث مناعة ضد القوارض والفيروسات والبكتريا؟؟ ما حيرني، فعلا، هو مقدمة المقالة، فقد بدأ ببضع جمل سخيفة من غبار الكلمات مدعيا الفلسفة، ثم قام ب(لطش) قطعة دسمة من مقالة لي لم أتذكر تماما أين نشرتها وكانت على الشكل التالي: يعتبر (نعوم تشومسكي) أن المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة. والمثقف -حسب المفكر البحريني (جابر الأنصاري)- هو من غادر حقل الاختصاص. وفي القرآن من يكتم البينات يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون. وسر الديمقراطية في المعارضة. ولا معارضة بدون فكر مستقل. ولا استقلالية في التفكير بدون حرية فكر. ولا قيمة لحرية التفكير بدون تعبير. والتفكير بدون تعبير يشبه الكمبيوتر بدون شاشة. وخياطو الفكر العربي اليوم موزعون بين أصناف، فمنهم من يرى التفكير حراما وخطيرا، ومنهم من يرى أن لا غبار على (التفكير) بحدود، أما (التعبير) فيجب أن يمر من قناة أمنية أو فقهية على المقاس، وعلى (التعبير) أن ينسجم مع أنغام الجوقة، وعلى المفكر أو الكاتب أن يقول قولاً لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظاً. ثم عرفت أين نشرت المقالة ومتى وفي أي موقع، لقد كانت قطعة وبداية من مقالة لي بعنوان «من هو المثقف؟»، نشرت لي في جريدة «الاتحاد» الإماراتية (بتاريخ 10 أكتوبر 2004م ..) وهكذا، فهذا اللص الظريف يفعل كما وصف القرآن نوعا من المنافقين مردوا على النفاق، أي أتقنوا المهنة وأصبحوا دهاة فيها.. يأتي الدرويش هذا الذي لم يبق درويشا؟ فيجلس على عدد من مقالاتي ومقالات آخرين مثل هاشم صالح، ثم يلطش من هنا ويلزق من هنا ويخرج بمقالة جميلة يرصع اسمه تحتها.. طالما كانت إمكانيات الكمبيوتر الحالية لا تحتاج أكثر من ماوس وتسويد القطعة أو الجملة أو الكلمة ثم وبحركة بهلوانية من يد علي الزيبق فيقص ويلزق، وينهي مقالته الجميلة في عشر دقائق، ما تعب صاحبها فيها من نضج عشرات السنوات وتعب عشرات الساعات في متابعة المصادر والمنابع.. إنها لعبة لطيفة جميلة رخيصة يتسنم فيها صبحي درويش ذرى المجد الكاذبة.. ولكن، كما يقول النيهوم، إن تسلق الظلال ليس مثل تسلق الجبال.. إن تسلق الظلال عادة غير حميدة.. وفي ما يخص التزوير والانتحال والسرقة في العلم والأفكار، فهناك أناس متخصصون في الموضوع، ولقد علمت عن أخ ليبي بأنه تتبع هذا اللص الظريف الدرويش وأمسك بمقالاتي وأين نشرت، ثم قارنها بماذا سرق صاحبنا، فخرج الدرويش عاريا بدون ورقة توت.. وقرأت أنا عن عالم سويسري اسمه (ديكمان)، متخصص في مشاكل التزوير والانتحال والسرقة، خاصة حينما فاحت رائحة كذب العالم الكوري في مسألة الخلايا الجذعية.. أن يزور اللصوص الأوراق النقدية أمر وارد، ولكن أن يكذب العلماء ويزوروا فهو أمر جلل. وحين يفقد الناس الثقة في عملة ما لا يعودون يتداولونها. فكيف إذا كانت علما؟ وفي الإنجيل، إذا كان النور الذي فيك ظلاما، فكم يكون الظلام؟ والمؤمن قد يسرق ويزني ولكن لا يكذب. وخاطب القرآن نساء النبي، فقال من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين. وحين طلب حواري عيسى المائدة أنزلها الله عليهم، ولكنه قال فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. ومن أشهر قصص السرقات العلمية تلك التي سمعنا عنها من الشرق الأقصى، على يد العالم الكوري الجنوبي (هوانج وو سوك)، فزعم أنه وضع يده على سر الخلايا الجذعية، من الاستنساخ الجسدي، وهي نبع الشباب، وعلاج جذري لكل مرض من الاهتراء العقلي، والزهايمر، واحتشاء القلب، ومرض السكر وانقطاع النخاع الشوكي. وكل ما يحتاجه المريض هو زرع خلايا من النسيج المتآكل بخلايا جديدة، فتصبح كما كانت من قبل كما خلقها ربي، ويعود كل عضو إلى وظيفته السابقة يضخ ويفرز ويعمل. وتبين أن كل ما قاله العالم لا يزيد على كذبة كبيرة يتورع عنها فلاح صيني. هذا ما كان من كوريا الجنوبية، أما كوريا الشمالية وكوبا وسوريا فكلها (بلفات) كبيرة، وأسماء متشابهة كوريا سوريا.. بتغيير بسيط في حرف واحد، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الحزب القائد إلى الصنم النووي. وفي تاريخ التزوير والكذب العلمي جعبة مليئة بالقصص المثيرة، أشهرها تلك التي أعلن عنها (جيمس واتسون) و(فرانسيس كريك) عن تركيب الكود الوراثي، حتى علمنا بأن التقنية أخذوها، عفوا سرقوها من عالمة شابة اسمها (روزاليند فرانكلين) سرقها (موريس ولكينز) ولم يشر أحد منهم بكلمة إليها، وماتت بسرطان الثدي في عمر الشباب 38 سنة؟ وربما كانت الأشعة السينية خلفها، لأنها الأداة التي سلطتها على كشف أسرار الكود الوراثي. أما (أديسون)، أبو المخترعات المشهور، فقد سرق جهد العالم الصربي (تيسلا) الذي اكتشف التيار المتناوب، ولم يكن معروفاً وقتها سوى الكهرباء الساكنة. ومعظم من يشتغل بالعلم يعرف أديسون ويشيد به، ولعل الندرة من سمع بتسلا المسكين الذي سُرق جهده وطحن عمله وهضم حقه بدراهم قليلة وكانوا فيه من الزاهدين، وملأ الوحش الرأسمالي أديسون جيبه بالملايين، وترصعت شهرته بسمعة لا ينال منها الزمن وتدرس لطلبة المدارس المقرودين!! أما (تروفيم ليسنكو)، فقد جنده الرفيق (ستالين) ذو شوارب الصقر المتين، لتدجين العلم لحساب (الإيديولوجيا)، وتم عزل عالم الإحياء الشهير (أفيلوف) من أجل إسعاد الرفاق الشيوعيين، وإرضاء غرورهم عن صحة العقيدة الشيوعية، التي تقول إن الإنسان تغيره ظروف الإنتاج المادي، فتبين أن الطبيعة الإنسانية ثابتة في المادة الوراثية، مما تشكل ضربة قاضية للنظرية الماركسية، وهو موضوع تكلم عنه باستفاضة (نديم البيطار) في كتابه (الإيديولوجية الانقلابية)، أو تلك التي اشتهرت في الأربعينيات من القرن العشرين عن كذبة (بيلت داون) عن كشف الحلقة المفقودة في نظرية داروين، فتم تركيب الفك السفلي لقرد من نوع أورانج أوتان البرتقالي على جمجمة إنسان، ليزعم صاحبها أنه وصل إلى الحلقة التي تربط بين القرود والبشر، في حماس أعمى لتأكيد نظرية داروين، التي حمي الوطيس حولها آنذاك، واشتهرت في الصراع الدائر بين توماس هكسلي والمتكلم من الكنيسة الأنجليكانية (صامويل ويل بيفورس)، وبقيت الكذبة سارية المفعول ثلاثا وأربعين سنة قبل إعلان زيفها. والكذب وارد في كل حقل معرفي طالما كان الإنسان ظلوما جهولا منوعا جزوعا، ففي الفن أظهر فيلم ((Incognito كيف تم تزوير لوحة (رامبرانت) فبيعت في المزاد العلني بثلاثين مليون جنيه للمترفين البلهاء. أو زعم الوصول إلى الطاقة الهيدروجينية بالطريقة الباردة، على يد مجموعة فلايشمان، ونحن نعلم بأنه لا يمكن دمج ذرات الهيدروجين للوصول إلى الهليوم، إلا بتفجير ثلاث قنابل ذرية حسب معادلة (ستانسيلوف أولام) بمبدأ القبضة الفولاذية الرباعية (FFFF=Fission-Fission-Fission-Fussion) ترفع الحرارة إلى ملايين الدرجات فتنقل الاستعار النووي من باطن الشمس ستة ملايين درجة إلى ظهر الأرض. وقد تخرج هوليوود دجلاً من هذا النوع في فيلم (القديس) عن هذه الفورمولا، أما العلم الحقيقي فقصة مختلفة. وخلاصة القول أن العلم له من الطاقة الأخلاقية الخفية ما يجعله لا يصبر على الانحراف فيصحح نفسه بنفسه. وعرفنا في الفيزياء أن (جان هيندريك شون) زور عمله في الفيزياء فائقة الدقة وتقدم وهو لم يتجاوز 31 سنة بأكثر من مائة ورقة عمل، نشرت منها 17 بحثا في مجلات علمية محكمة مثل الطبيعة والعلوم، وتبين لاحقا أنها كانت كذبا في كذب، تمت فيها الفبركة والتزوير والتلاعب بالنتائج. وكذلك ما روجه العالم البريطاني (سيريل بورت) في الستينيات من القرن الفائت في أبحاث التوائم، فلم يزيد على (بلفة). وكذلك ما شاع عن (ويليام سامرلين) دعوته أنه سيطر على ظاهرة رفض الجسم للأشياء الغريبة، فقال إنه أماط اللثام عن السر في زرع جلد من فأر إلى فأر، وكانت تجربته في نقل الجلد الأسود إلى ظهر فأر أبيض، ثم ظهر أن الرجل بلغت به الوقاحة والاستهتار بعقول الناس أن عمد إلى قلم وقار فطلى بها ظهر الفأر الأبيض الذي لا يملك الرفض؟؟ أما (فريد هيلم هيرمان) فتبين أن أبحاثه عن السرطان كان متلاعبا بها. وقصة جماعة الرائيين من كندا عن الاستنساخ الجسدي لأول إنسان لم تنطل خدعتها على العالم، فدحضت بسرعة. وصاحبنا (وو سوك) كان يضحك ويبتز مساعدته فأخذ من مبايضها 1600 بيضة لتجارب لم تسمن ولم تغن من جوع. ومن يكذب يصبح شرسا، فيقود المرض إلى ما هو أشد، ليس بالتوبة والعودة عن طريق الفاحشة، بل بالإصرار على المضي في طريق اللاعودة واللاتوبة كما هو الحال مع صاحبنا الدرويش!! وفي الإنجيل، احترسوا من الأنبياء الكذبة، الذين يأتون في ثياب الحملان ومن داخل ذئاب خاطفة، فلما سئل المعلم وكيف نعرفهم قال: من ثمراتهم تعرفونهم، فلا تعطي ثمرة التين حسكا. ومن تراثنا، سمعنا عن عشرات الأنبياء الكذبة الذين عاصروا النبي ص، فمنهم الرجال ومنهم النساء مثل سجاح، ومنهم من ادعى نزول قرآن عليه مثل مسيلمة الذي قرأ على أتباعه سورة الضفدع؟ يا ضفدع بنت ضفدعين.. نقي ما تنقين.. نصفك في الماء.. ونصفك في الطين.. لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين؟؟؟ وقصة ابن الصياد مشهورة. وهنا، فإن دور المغفلين المخدوعين هو أكبر من دور المحتالين الخادعين. يقول ديكمان: إن الثقة أساسية في العلم مثل العملة، فنحن نعرف أن هناك قدرا ضئيلا من أوراق مزورة، ولكن إذا كثرت انهارت الثقة في كل العملة وكذلك الثقة في العلم. والمال والمصالح تؤدي دورا قذرا في اللعبة، كما حصل في شركات التدخين، أو تلك التي تنتج البيرة، حين تم إخراس العالم الذي قال عنها إنها ضارة. وهنا، فإن على العلم أن ينتظر قانون التاريخ، الذي قد يتأخر أحيانا حتى ينضج، فيزول الغثاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. والتزوير في الأبحاث البيولوجية والإحصائية، أشد منها في العلوم الإنسانية خلاف المتوقع، حيث يسقط علم أرسطو ومنطقه الصوري في الفخ، مثل التي عاصرتها أنا شخصيا عن زميل قدم مائة حالة عن علاج سحري لمعالجة انقطاع الدم الحاد عن الأطراف التي تصل متأخرة، والزملاء يهزون رؤوسهم استحساناً، وأنا أعرف أنه من الدجاجلة الضارين!! وفي العلم لا يوجد سحر بل وضوح ومعادلات صارمة، وهو المبدأ الذي رواه ديورانت في كتابه (قصة الفلسفة) عن (فرانسيس بيكون)، وأشار إليه (كلود برنارد) في كتابه (الطب التجريبي)، بأن العلم لم يتقدم بالأسرار بل بالعلنية ونقاش الآراء بصراحة ووضوح ودقة، وتبادل الآراء بين العلماء، لتنمو الخبرات، فلا توجد في العلم أسرار، بل صدق ومثابرة وإخلاص إلى حد التبتل. وعالم الاجتماع السويسري (ديكمان) يقول إنه لا نجاة من هذا المرض وتحرير العلم من الضحك عليه إلا بالمراقبة الصبورة الدؤوبة المتكررة المعادة... وهي تلك التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن أمراض النقل في الأخبار، فقال إن الأخبار إذا نقلت ولم توضع لستة اختبارات فلم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والاجتماع البشري ولم يقارن الغائب بالحاضر والذاهب بالآتي فلا يأمن فيها المرء من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. ثم يستشهد بستة أغلاط رئيسة وقعت لأئمة النقل، مثل جيش موسى الذي كان 600 ألف، وأنه مستحيل من الناحية اللوجستية، فلا يعلم طرف الجيش بما يحصل في طرفه الآخر، أو أن من بنى الأهرامات كانوا العمالقة، وعرفنا من حملة هتلر (بارباروسا) على روسيا أنه حل المشكلة اللوجستية، التي حيرت ابن خلدون، في سوق أعداد ضخمة من الجنود، فبلغت خمسة ملايين جندي بقبضة من جيوش شتى، أو في كشف سر الأهرامات أنها بنيت في عهد الأسرة الرابعة، التي لم يكن يعرفها أحد من مؤرخي العصر القديم. وابن خلدون، بهذا المنهج الصارم، يلمس الجدار الصاعق في نقل الأخبار عموما، وطرق التأكد منها حتى لا تغتال العقول، ومشكلة الصنم في التاريخ لم تزد على هذا، حيث تم فيه اغتيال العقل دوما على شكل منظم على يد الكهنة، في الوقت الذي تم فيه اغتيال الحريات على يد الطاغوت، ثم تعانق الطاغوت مع الجبت في زواج مشؤوم أعاق التقدم الإنساني. وفي هذا يعجبني عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) الذي يقول إن العقل الإنساني آخر ما يبحث عنه العدل والحق والحقيقة، بل هو عضو للبقاء مثل درع السلحفاة وناب الأفعى وقرن الثور وساق النعامة. باختصار، العلم له أخلاقية، فمن طلب العلم لغير الله لم يأته العلم. ويروى عن الإمام أبو يوسف أن أسد بن الفرات الذي جاءه من تونس يتعلم على يديه، أنه كان إذا غفل أو نعس، أي ابن الفرات، نضح وجهه بالماء ثم قال له: إن العلم لا يعطيك بعضه إلا بعد أن تعطيه كلك، وأنت من هذا البعض على غرر.. ونحن هنا أمام بحث سيكولوجي عن جذور الكذب والاختلاس والانتحال والتزوير؟؟ وهي أمور يجب تعقبها حتى سنوات الطفولة؟؟؟ فلماذا يكذب الطفل؟ وكيف يستنشق مثل هذا الهواء الفاسد وكيف يتنشأ على تربة خبيثة من هذا النوع؟؟ يرى علماء النفس أن الأصل في الإنسان أن يبحث عن الحقيقة لذاتها وأن (حب الحق لذات الحق هو الزهرة الجميلة التي تنبت من شجرة غريزة حب الاستطلاع)، أما نماؤها فيكون (متدرجاً ويعلن هذا الاستعداد عن نفسه أولاً باحترام الدقة في التعبير ثم بالتعطش للشرح والبيان). ولكن لماذا يكذب الإنسان عموماً أو لماذا يتعلم الطفل الكذب؟ إن هذا يحتاج إلى تفكيك سيكولوجي. إن الطفل صادق التعبير وهو يشبه سطح الغدير النظيف الهادئ يعكس على سطحه الصور صحيحة، ولكن مع هذا تترجرج الصورة فيه ويعلوها الغبش مع أقل ريح أو سقوط جسم من الخرافة أو التهويل والمبالغة أو الركض خلف الخيال، ومنه قال العرب أكذب من صبي. والآن ما هي دوافع الكذب عند الطفل؟ يبدو أن أعداء الصدق عند الطفل أو أمراض الحقيقة ثلاثة: (الخوف) و(الرغبة) و(الخيال). فالطفل عندما يخشى العقاب يحاول التهرب منه بالكذب. كما أن الطفل عندما يسرح به الخيال يرى قصورا من ذهب وحوريات على شواطئ البحار وسباحة في الفضاء. وأذكر في يوم وابنتي الصغيرة تتحدث لأختها الأخرى عن سيارتها الفخمة وكيف أنها أخذتها للتصليح ونوع العطل الذي تعرضت له وأن مفاتيح السيارة معها وهي مستعدة لتسليمها السيارة. كانت تتحدث بطريقة لم أستطع معها إمساك بطني من الضحك لأنها كانت تتحدث بكل جدية واهتمام مع أجنحة الخيال. وعندما شعرتا بأنني أضحك غيرتا موجة الحديث فورا. كما أن الطفل إن جمحت به الرغبة بدأ في مسلسل الكذب بدون توقف حتى يصل إلى ما يريده. وهناك الكثير من الأمراض التي يتعرض لها الأطفال، مثل الكذب أو السرقة أو حتى الاختلالات الجنسية. والخيال جميل للطفل كي ينمو نفسياً على ألا يتحول إلى مرض مع النضج والرشد. وأعرف أكثر من واحد قد ابتلوا بداء الكذب وهم خطرون لأن الحقيقة والخيال يمتزجان فلا يستطيع الإنسان أن يعول عليهم في شيء. وأعرف أنا شخصياً صديقا لي ونحن أطفال صغار، كنت أحبه كثيرا، فكنت أجلس إليه مع البرد ونحن نتدفأ في دكان والده النجار والمطر يطلق رذاذه اللطيف وهو يتحدث لي عن مغامرات (الملك زعّان) وحروبه والمعارك التي يخوضها، وكان عندما يصل إلى الرواية عند المجابهة بين الجيوش يبدأ في تقليد قرع الطبول ثم يبدأ بضرب يده على علبة صفيح (تنكة) دادا دم دادا دم ..دم .. دم.. أمامه فيطول الأمر وكنت أنتظر بفارغ الصبر انتهاء قرع الطبول لأعرف منه تطورات أخبار المعارك، وعلى ما يبدو فإنه كان يدرك ذلك، فكان يحضر في ذهنه ويخترع أنباء التطورات الجديدة، أثناء قرع الطبول الوهمي. إنني اليوم بعد تجاوزي الخمسين أشتهي أن أتمتع بتلك اللذة العقلية التي كانت تستولي علي منك يا بشير وأنا أصغي لقصصه الخرافية المحشوة بالكذب. وهكذا، فصاحبنا صبحي الدرويش ليس جديدا في (الكار = المهنة أو الحرفة) كما يقول أهل الشام، ولسوف نكتشف من حين إلى آخر طوائف اللصوص كما كان الجاحظ يتكلم عن طوائف البخلاء..