يوم الأربعاء 19 فبراير، توفي الصحافي الفرنسي جون دانيال، مؤسس المجلة الشهيرة “لونوفيل أوبسيرفاتور”، عن عمر يناهز 99 عاما.. ولد في الجزائر من أسرة يهودية، وانتقل للدراسة في فرنسا، ودافع عن استقلال الجزائر، قبل أن يتحول إلى أحد أشهر الصحافيين، الذين حاوروا شخصيات سياسية كبيرة منها الرئيس الأمريكي جون كينيدي سنة 1963.. وفي المغرب اشتهر بحواراته مع الحسن الثاني، ونسجه معه علاقة وطيدة.. في هذا الحوار يروي حميد برادة، الصحافي في جون أفريك، وصديق دانيال، قصة هذه العلاقة.. متى كانت أول مرة تعرفت فيها على الراحل جون دانيال؟ أول مرة تعرفت فيها على دانيال كانت بعد حرب 1967، حين ألقى محاضرة في الحي الجامعي “دار المغرب” في باريس، فتهجم عليه بعض الطلبة المغاربيين لأن الجو كان مشحونا حينها بعد تلك الحرب، رغم أن دانيال عبر عن مواقف إيجابية من القضية الفلسطينية وقد استمر على مواقفه إلى وفاته. وأذكر مما قاله في محاضرته: “لا يمكن أن أكون ضد العرب، لأن صديقا عربيا هو الذي أنقذني من الموت”، وكان يشير إلى الصحافي بشير بن يحمد، (مؤسس جون أفريك منذ الستينات)، حين كانا معا يغطيان أحداثا في مدينة بيرزيت التونسية بعد الاستقلال، فقام الطيران الفرنسي بقصف المدينة فأصيب جون دانيال وكاد يموت فحمله بن يحمد على ظهره وأنقذه. بعد ذلك اللقاء، في “دار المغرب” اتصلت به وزرته للتقليل من ردود الفعل ضده، ومنذ ذلك الحين أصبحنا أصدقاء. كيف ساهمت في الحوارات التي أنجزها جون دانيال مع الحسن الثاني؟ كان دوري بسيطا جدا، فقد كنت كلما أراد جون دانيال إجراء حوار مع الحسن الثاني إلا ويتصل بي فأقوم بدوري بالاتصال بمولاي احمد العلوي، الذي يتولى استدعاءه، وهو يذكر هذا في كتبه. وأسجل هنا أن جون دانيال كان لا يفوت أي فرصة في لقاء الحسن الثاني إلا ويثير معه قضية حقوق الإنسان في المغرب.. وقد كان الحسن الثاني يخصص ساعات طويلة للجلوس معه، للحديث في معظم المواضيع الدولية وخاصة الشرق الأوسط. وسجل أبرز مواقفه مثل قوله عندما سئل عن الإسلاميين في المغرب، فرد “je suis le premier fondamentaliste”، وكان بجوابه يؤكد على أهمية الإسلام الذي لا يجب تركه للإسلاميين. وتجدر الإشارة إلى أن حوارات الحسن الثاني مع جون دانيال، بدأت بعد لقاء الحسن الثاني مع ناعوم كولدمان، رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، خاصة بعدما لعب دانيال دورا في ترتيب هذا اللقاء. ما تفاصيل هذا اللقاء؟ في كتابه la blessure روى جون دانيال قصة اللقاء بين كولدمان والحسن الثاني والدور الذي لعبه في ترتيبه. وبخلاف ما كتبت “لوموند” مؤخرا فإن جون دانيال ليس هو من رتب لقاء كولدمان، بل إن القصر هو من طلب من جون دانيال الاتصال بكولدمان وإبلاغه بدعوته من الحسن الثاني لزيارة المغرب، وهذا ما كتبه في كتابه. ويمكن أن ننقل فقرات مما رواه: يقول إنه بعد أحداث 1965 وقضية اختطاف بن بركة اتخذت مجلة لونوفيل أوبسيرفاتور موقفا ضد نظام الحسن الثاني، فانقطعت الاتصالات معه. ولكن فِي أحد ليالي يونيو 1970، يقول إنه تلقى اتصالا من مولاي احمد العلوي المقرب من الحسن الثاني، الذي لم يتواصل معه منذ سنين يطلب منه أن يرافق ناعوم كولدمان في زيارة إلى المغرب. تساءل دانيال: “غولدمان.. هل تم استدعاؤه؟ رد العلوي: لا أنت الذي يجب أن تتصل به ليقبل دعوة الحسن الثاني وأن ترافقه للمغرب”، ولماذا لجأت إلي أنا بالضبط؟ سأل دانيال، “لأننا نعتبر أنك في أفضل موقع للتصرف في مثل هذا المشكل”، رد العلوي. طلب دانيال أخذ وقت للتفكير والرد في اليوم الموالي. فكان الجواب أنه في الصباح “سيكون قد فات الأوان”، رد العلوي مضيفا “يمكن للحسن الثاني أن يغير رأيه”. وهل سيوافق كولدمان الذي لا أعرفه كثيرا على الدعوة؟ يقول دانيال “إن متحدثي الليلي كان مقتنعا، ولا شك لديه في أنه سيوافق.. وكان معه الحق”. ويؤكد دانييل أنه اكتشف أن جمال عبد الناصر هو من كان يفترض أن يتصل بكولدمان لعقد لقاء ولكن كولدا مائير رفضت أن يمثل كولدمان إسرائيل، ففشل اللقاء ودخل المغرب على الخط. ويروي دانيال أنه اتصل بكولدمان في سويسرا، فوافق على دعوة الحسن الثاني واشترط فقط ألا يكون ممثلا لإسرائيل. وهكذا وافق على السفر للرباط في 25 يونيو 1970، حيث استقبله الحسن الثاني. يقول دانيال الذي رافق كولدمان إنهما اندهشا من تمكن الحسن الثاني ومستوى تحليله. وكتب “فوجئنا أن زعيما عربيا قرر أن يتدخل لوضع حد للصراع اليهودي العربي”. وانطلاقا من هذه الزيارة، “بدأنا نهتم في الغرب بهذا الحاكم العربي الذي يعد السابع عشر في ملوك سلالته التي حكمت المغرب”. ويمكن القول إنه بعد لقاء كولدمان فتح الباب لعلاقات وطيدة بين دانيال مع الحسن الثاني. يوصف جون دانيال بأنه ليس فقط صحافيا، وإنما صحافي ورجل دولة؟ فعلا هذا الوصف صحيح، وقد أطلقه عليه هوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق الذي ألف عنه كتابا يحمل اسمه “جون دانيال”، فقد قال عنه إنه “صحافي ورجل دولة”. لقد كان دانيال يعتبر قضايا حقوق الإنسان أساسية. وَمِمَّا أذكره أنه كان وراء مساعدة أبراهام السرفاتي على الزواج من الفرنسية كريستين. فقد كان السرفاتي حينها في السجن، ولكي يتم زواجه يجب أن توافق السلطات المغربية، فطرح دانيال الموضوع على الحسن الثاني، فوافق وتم الزواج. كما أذكر أنه كان حريصا كلما اتصل بالحسن الثاني أن يتصل أيضا بعبد الرحيم بوعبيد، القيادي الاتحادي، فقد كان بحكم خلفيته اليسارية، يراعي العلاقات مع اليسار، ولعب دورا في التقريب بين القصر والمعارضة. ما الذي تذكره من قصص في علاقة الحسن الثاني بدانيال؟ خلال أول لقاء تم بين الحسن الثاني ودانيال، وقع سوء فهم لشخصية هذا الأخير. فقد أهداه الملك هدية عبارة عن ساعة ثمينة مرصعة بالذهب، عادة ما يضعها أمراء الخليج أو التجار الكبار في لبنان. مثل هذه الهدية لم تتوافق مع شخصية دانيال، فهو أنيق وبسيط في نفس الوقت ولا يبالغ في المظاهر، فاعتبر أن هذه الهدية إهانة له، وهو ما لم يكن في حسبان الملك. قرر دانيال أن يتخلص من الساعة الفاخرة بتسليمها للهيئة التي تمثل العاملين في مجلة “لونوفيل أوبسيرفاتور”، وقد أخبرني بذلك قبل أن يفعل، فنبهته إلى أنه بمجرد تسليمها فإن جميع العاملين في المجلة سيطلعون على الأمر ومن المؤكد أن يسرب أحد الخبر إلى جريدة “لوكانار أونشيني”، المختصة في مثل هذه الأسرار، فقرر التراجع، ولكنه سلم الهدية لإحدى الجمعيات الخيرية. هل حدثت توترات في علاقة دانيال بالحسن الثاني؟ كانت علاقتهما مبنية على الاحترام لكن أحيانا وقعت بعض المشاكل، ومنها أنه مرة كان مقررا أن يمر الحسن الثاني في برنامج heure de vérité l، والذي يتولى فيه ثلاث صحافيين فرنسيين طرح الأسئلة على الضيف. اهتم الحسن الثاني كعادته كثيرا بالحوار التلفزي. ولكن قبل أن ينتقل الفريق التلفزي للمغرب للتسجيل، سافر البصري إلى باريس ومورست ضغوط على جون دانيال بعدة وسائل حتى لا يطرح موضوع حقوق الإنسان في الحوار. فقد كانت هناك حساسية في فرنسا من قضية حقوق الإنسان في المغرب. وقد طلب دانيال مني أن أرافقه إلى المغرب لمتابعة البرنامج. وقبيل دخول دانيال رفقة الحسن الثاني للبلاطو قال له هذا الأخير، “لا تطرح أسئلة عن حقوق الإنسان في المغرب”. وقد كان هذا سلوكا غريبا وغير معتاد من الحسن الثاني الذي عرف عنه حب النقاش والتجاوب مع أي سؤال. وَلَكِن مر البرنامج بشكل جيد، ولم يفوت دانيال الفرصة لطرح السؤال عن حقوق الإنسان بطريقة لبقة ومعتدلة وبدون تهجم، والحسن الثاني رد بطريقته. ومباشرة بعد البرنامج تناولت العشاء رفقة دانيال والوزير الفرنسي السابق ميشيل جوبير فهنأته على نجاح البرنامج. لكن عندما عدت لبيتي تلقيت اتصالا من صحافي زميل من لونوفيل أوبسيرفاتور، الذي أخبرني أن الصحافيين العاملين في المجلة غاضبون منه بسبب مجاملته للحسن الثاني. ولكن في العدد الذي صدر لاحقا من “لونوفيل أوبسيرفاتور”، فوجئت حين قرأت افتتاحية عنيفة كتبها جون دانيال ضد الحسن الثاني استخدم فيها عبارات قاسية. لم يكن ذلك أسلوبه، وقد تبين لي أنه بعد هذه الافتتاحية سيكون من الصعب عليه الحفاظ على علاقاته مع الحسن الثاني. هل كان يريد تهدئة الغضب وسط صحافي لونوفيل أوبسيرفاتور؟ فعلا، من البديهي أنه كان يراعي ردود الفعل داخل مجلته. وقد اتصلت به بعد قراءة الافتتاحية وسألته “هل قررت قطع العلاقات مع الحسن الثاني؟” فرد بالنفي. فقلت له “كيف يمكنك الحفاظ على العلاقات بعد ما كتبته؟.. هل كانت هذه الافتتاحية نقطة قطيعة فعلا؟ نعم، تأكدت بأنه حصلت قطيعة، لكن جون دانيال حاول إصلاح الوضع، فاتصل بي من جديد وبعث لي مشروع رسالة موجهة للحسن الثاني من أجل إصلاح ما أفسدته الافتتاحية. عندما قرأت الرسالة، اتصلت به والتقيته، فحذرته من إرسال الرسالة للقصر، لأن ذلك سيكون انتحارا بالنسبة له في حالة قام المغاربة بنشرها، فاستغرب قائلا “هل يمكن أن ينشروها؟”، فقلت له إن ذلك ممكن. ما مضمون الرسالة؟ كانت رسالة مجاملة ومحاولة إصلاح الجرة وتضمنت عبارات إيجابية.. كان آخر حوار أجراه الحسن الثاني مع جون دانيال سنة 1999 قبل وفاته بأشهر هل ساهمت في الإعداد له؟ نعم، كان هذا آخر حوار أجراه الحسن الثاني مع دانيال، ولكن لم يكن لي أي دور في ترتيبه.