عن عمر يناهز 99 عامًا، توفي الصحافي الفرنسي المرموق جان دانييل، مؤسس صحيفة «نوفيل أوبسرتفاتور»، وأحد الصحافيين الأكثر ارتباطا بالشأن المغاربي، كما ارتبط بعلاقة صداقة مع الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، نقل بعض تفاصيلها في كتابه المعنون «هذا الغريب الذي يشبهني». وقد ظل الراحل مواظبا على كتابة افتتاحياته الأسبوعية في مجلة «لونوفال أوبسيرفاتور» (التي أصبحت تسمى لوبس) والتي أنشأها في الستينات من القرن الماضي لتكون إلى حد الآن، واحدة من أرقى المجلات الفرنسية الجامعة بين السياسة والثقافة. لم ينقطع جون دانيال عن المشاركة بجديته المعروفة في الجدل القائم في فرنسا حول مختلف القضايا، تساعده في ذلك ثقافته الواسعة ومعرفته الدقيقة بالتاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وبالآداب الإنسانية في مختلف العصور، وكذلك حنكته السياسية التي راكمها عبر السنين. فقد التقى الراحل بأشهر الزعماء السياسيين في الغرب والشرق، بل إنه كان صديقا للبعض منهم من أمثال الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والزعيم الجزائري أحمد بن بلة، وآخرين، وكان يرتبط بعلاقات وثيقة بكبار الفلاسفة والكتاب خصوصا بألبير كامو. ولد الراحل بمدينة البليدة الجزائرية لعائلة يهوديّة متواضعة. وقد تأثر في سنوات مراهقته بأفكار وأطروحات اليسار الاشتراكي. لكن بعد أن قرأ كتاب أندري جيد «العودة من الاتحاد السوفييتي» الذي فضح فيه الوجه البشع لاشتراكية ستالين ولسياسته القمعية تجاه المعارضين، كفّ جان دانيال عن إظهار إعجابه بالماركسية. انتسب جان دانيال في جامعة الجزائر إلى حلقة أطلقت على نفسها اسم "أصدقاء مجلة اسبري" (الفكر). وكان يرأس تحرير هذه المجلة الفيلسوف إيمانويل مونييه (1905-1950) الذي كان يدعو إلى ضرورة بلورة فلسفة إنسانية سمّاها «الشخصانيّة»، بهدف السعي إلى «معالجة أزمة الإنسان في القرن العشرين»، ومواجهة الفوضى التي حدثت في الغرب بسبب تنامي النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، وبروز انحرافات ستالين. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية، انضم جان دانيال إلى حركة المقاومة الفرنسية بزعامة الجنرال ديغول، ليساهم في تحرير الجزائر العاصمة من الاحتلال النازي، ممهدا لدخول الجيش الأمريكي إليها. عمل جان دانيال في مكتب رئيس البرلمان، وشغل وظائف أخرى ساعدته على التعرف على خفايا السياسة الفرنسية الجديدة، وعلى الشخصيّات الفاعلة، غير أنه لم يلبث أن اكتشف أن العمل في المجال السياسي، لن يكون مفيدا له، فأسس مجلة أطلق عليها اسم «كاليبان». وفي تلك الفترة تعرف على ألبير كامو، وارتبط به بعلاقة صداقة وثيقة. وبسبب الضغوطات المادية التي كانت تزداد استفحالا يوما بعد يوم، توقفت المجلة المذكورة عن الصدور وذلك عام 1952، وقبل ذلك، وتحديدا في شهر دجنبر عام 1947، أصدر جان دانيال بيانا أمضاه مشاهير المفكرين والكتاب من أمثال جان بول سارتر، وإيمانويل مونييه، وجان-ماري دومناش، ومارلو بونتي للمطالبة بحيادية أوروبا في الصراع الدائر بين القطبين الكبيرين اللذين برزا للوجود في نهاية الحرب الكونية الثانية، أي الولاياتالمتحدةالأمريكية وما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي. عند اندلاع الحرب التحريرية الجزائرية، أرسل إلى جبهة القتال من قبل مجلة «الأكسبريس» ليكتب مقالات مساندة لنضال الشعب الجزائري من أجل الاستقلال، منددا بعمليات التعذيب الوحشية التي كان يمارسها الجيش الفرنسي ضدّ المناضلين الجزائريين، ومظهرا ميلا لأطروحات الزعيم الاشتراكي منداس فرانس الذي سيمنح استقلال تونس الداخلي في صيف عام 1954. وبسبب مواقفه المدافعة عن حرية الشعوب في تقرير مصيرها، حوكم جان دانيال مرتين بتهمة المس من أمن الدولة، كما صودرت بعض أعداد مجلة «الأكسبريس» بسبب مقالاته. وأما المناهضون لاستقلال الجزائر فقد هددوه بالقتل. وعند اندلاع حرب مدينة بنزرت التونسية في صيف عام 1961، انطلق دانيال إلى تونس ليكون على جبهة القتال، وبعد مرور يوم واحد على وصوله إلى هناك، أصيب بجرح بليغ كاد يؤدي إلى وفاته. نشير إلى أن الراحل أسس، بعد تجربة في مجلة «ليكسبريس»، أسبوعية «لونوفيل أبسيرفاتور»في العام 1964، فضلا عن تعاونه المنتظم مع جريدتي «لا ريبوبليكا» بروما و»إل باييس» بمدريد. وقد أصدر دانييل كتابات أدبية وسياسية وحوارات من بينها بالخصوص «الصديق الإنجليزي» وهي مجموعة قصصية صدرت في 1994 عن دار «غراسي» وحصلت على جائزة ألبير كامي، و»مع الزمن دفاتر 1970-1998» التي حازت على جائزتي المتوسط و»ميموريال». ويعد جان دانييل الكاتب الفرنسي الوحيد الذي حصل على الجائزة الكبرى لأمير أستورياس.