لنبدأ بما يلي: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وقد أصبح من حيث الجوهر حزبا إداريا، لمَ لا يُعَوَّض بحزب آخر في الكتلة الديمقراطية؟ فدرالية اليسار الديمقراطي -أو أطرافها البارزة على الأقل- غرقت في هلوسة غريبة من الاعتداد بالنفس والتكبر، وهي لا تصلح لبناء عمليات مشتركة على ما يبدو، ورئيستها، نبيلة منيب، تتصرف وكأنها زعيم شيوعي في جمهورية شرقية. الكتلة الديمقراطية ليست مجرد شبح، أو روح سكنت هيئات في مرحلة قبل أن تنطفئ على مائدة الحكم. يمكن أن توقظ الظروف المناسبة تلك الروح، وعلى المعاول أن تشرع في الحفر. إن الكتلة الديمقراطية وإن كانت قد دفنت لدهر، فإن جثمانها محفوظ بعناية ترعاها ظروف القهقرى. ولسوف يظهر أن كل ما كان ينقص هذه الكتلة هو الظروف المناسبة. قبل يومين، كانت الصورة مغرية؛ حزبا الاستقلال والتقدم والاشتراكية يجتمعان فجأة، ويعلنان موقفا، لكن ما هو أهم هو الإفصاح عن الشروع في تنسيق مشترك لما سيلي من زمن. وبين الحزبين تاريخ طويل من الود على كل حال، وهي مشاعر مفتقدة بين التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي، أي، على نقيض ما ينبغي أن يكون عليه واقع الحال. لكن، يمكن تفهم مشاعر الانتقاص بين اليساريين، فقد جُبلوا على فعل ذلك في ما بينهم. لكن الكتلة وقد أسقطت الآن من حسابها حزب الاتحاد الاشتراكي –وهو ما يجب فعله- عليها أن تبحث عن بديل. إن أي محاولة مجددا إزاء الاتحاد الاشتراكي ليست مجدية في نهاية المطاف، وستكون مضيعة للوقت. لقد تغير هذا الحزب بشكل جذري، ولم يعد يمكن التعرف عليه بيسر بصفته كيانا يساريا. ولئن كان إدريس لشكر قد جعل من اسم الحزب صك ملكية في مزاد علني، فقد آلت في نهاية المطاف إلى أفضل عرض. وهل هناك من يستطيع أن يقدم عرضا أفضل من عزيز أخنوش، وهو صاحب أكبر ثروة في البلاد؟ لا أحد. لا يمكن أن تخفي تحولات الاتحاد الاشتراكي، التي وقعت حديثا، تاريخا مريرا من التسلط داخل الكتلة الديمقراطية. وقد لازمه الشعور بقدرته على القيادة إلى أن نزلت عليه صناديق الاقتراع وهي فارغة. لكن هناك حالة إنكار شديدة للواقع داخل ذلك الحزب. وإذا كان يحاول أن يتصرف مثل حزب لديه مائة مقعد، فإن الآخرين يجب أن يتصرفوا معه وفقا لوزنه الحقيقي، لا حسب ما يزن زعيمه عند كفيله. ولقد تصرف لشكر إزاء التقدم والاشتراكية وكأنه ليس هناك عدو غيره. تغيرت ضمانات الاتحاد الاشتراكي، فهو محمي وفق فصول الحماية من الانقراض السياسي، وقد كشفها بوضوح قادة التجمع الوطني للأحرار. ويوم تتبدل الظروف -أو بالأحرى، ترفع اليد عنه- فإن الانقراض هو مصيره الحتمي. في الكتلة الديمقراطية قديما، كانت هناك كيانات أخرى، سوف تنسحب تباعا؛ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنظمة العمل الديمقراطي. كانت الخلافات حول مبادئ الحكم هي التي تجعل الكتلة الديمقراطية تتقلص باستمرار، لكن لم يصدر أحد شهادة الوفاة يوما. لقد أراد عبد الإله بنكيران أن يكون طيف الكتلة سندا له في حكومة 2011، لكن الاتحاد الاشتراكي، بوصفه جريح حرب عادلة، أبى واستكبر. وفي 2016، تغير الموقف، لكنه، وهو يرقب الإزاحة العتيقة لحزب الاستقلال، سيلقي بنفسه في بركة أحزاب الإدارة، ومن يدفع للعازف يختر اللحن، ولسوف يعزف لشكر كل الألحان التي أرادها أخنوش، وإن فعل ذلك بتكبر متصنع. لم يكن مسموحا لبنكيران أن يسند ظهره بالكتلة الديمقراطية وإن كانت قد نُعيت على واجهات الصحف. التأثير المعنوي لذلك لا يمكن تحمله، وبعض المفاهيم السياسية مازالت قادرة على أن تحظى بالألق لدى الناس غير المبالين، ولسوف يعمل لشكر على إفساد كل ذلك، كما فعلها إلياس العماري في ما مضى. الاتحاد، ولشكر على رأسه، لا يصلح لشيء بالنسبة إلى الكتلة الديمقراطية، ولقد حسم الرفاق الآخرون قرارهم في هذا الصدد. وإذا حدث وذهب لشكر إلى حال سبيله، فإن الاتحاد سيصبح مثل غرب متوحش، ولقد صممه طيلة ست سنوات على أن يصبح كذلك بدونه. إذن، ما العمل؟ يعرف الاستقلال أن الحمولة الزائدة لليساريين في الكتلة الديمقراطية قد شكلت عبئا ثم عائقا للمضي قدما. ويتفهم اليساريون في التقدم والاشتراكية أن البحث عن مكون يساري إضافي ليس سوى نفخ في الصور. لن يحدث سوى الزعيق. لقد التقى حزبا الاستقلال والتقدم والاشتراكية يوما واحدا بعدما انتُخب عبد اللطيف وهبي أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة. وفي السياسة، ليست هناك مصادفات إلا إن كانت من مكر التاريخ فحسب. يزيد ذلك قوة تصريح نبيل بنعبد لله نفسه حول «البام». لقد أفصح عن وجود تفكير في بناء تقارب. يمثل عبد اللطيف وهبي، بقدر غموضه، شخصية قابلة للتعويم، فهو وإن أحاطته الدعاية بهواجس الإسلاميين، يظهر أن مشروعه قريب أكثر إلى الديمقراطيين الحداثيين. وفي الواقع، لم يتبق من هؤلاء سوى نزر قليل. حزبا الاستقلال والتقدم والاشتراكية يمكن أن يشكلا قاعدة لمشروع حداثي ديمقراطي متمايز. لدى وهبي فكرة واضحة عن مشروع حزبه؛ المشروع الحداثي الديمقراطي لا يمكن التخلي عنه، لكن يمكن أن يكون استخدامه أكثر مصداقية، وأن يكون عمليا أكثر، إن جرى ذلك مع الأشخاص المناسبين. ليس من مصلحة وهبي أن يتقدم رأسا إلى الإسلاميين، لكنه سيكون على قدر معتدل من الذكاء إن فعل ذلك بواسطة طريق معبد بشكل أفضل.. وليس هناك طريق أفضل من الكتلة الديمقراطية، وعلى السلطات أن تسمح بذلك. إذا كان يراد لحزب «البام» أن ينبعث، كما أن يتخلص من أعمال الشيطنة البغيضة والمدمرة عن حق، فإن تكتلا معارضا بهذه التسمية قد يكون أقصر الطرق لترميم سمعة كريهة، وإذا كان مخططا أن يكون «البام» قطعة في محرك يدور في الاتجاه حيث يدور الإسلاميون، فإن أفضل طريقة هي الكتلة الديمقراطية. يمكن أن يسموها لاحقا ما يشاؤون، لكن، صدقوني، ليس هناك من هو أكثر تأهيلا لتعويض الاتحاد الاشتراكي، وقد أصبح إداريا، من حزب الأصالة والمعاصرة وهو يتصنع بعده عن الإدارة.