ما قراءتك لتنامي ظاهرة التنمر والابتزاز الإلكتروني؟ أدى الانتشار الكبير لاستعمال الوسائل الحديثة للتواصل والأنترنت بين أفراد المجتمع إلى ظهور جرائم جديدة، يطلق عليها الجرائم الإلكترونية، كالنصب والاحتيال الإلكتروني والمعلوماتي. وبالتالي، فتطور ظواهر إجرامية جديدة عامة، وتفشي التنمر والابتزاز الإلكتروني خاصة، راجع إلى الازدياد المهول في وتيرة التطور التقني للمعلوميات، واتساع استخدام وسائل التواصل الحديثة، وانعكاسها على مختلف أشكال المعرفة الإنسانية وتغييرها نمط حياة الأفراد. ويعد التنمر بجميع صوره، سواء كان مضايقة الضحية، تشويه سمعتها، انتقادها، انتحال هويتها، أو خداعها والاحتيال عليها، إضافة إلى الابتزاز الإلكتروني، من أخطر صور الجرائم الإلكترونية، نظرا إلى آثارها السلبية الكبيرة على نفسية الشخص، والتي قد تؤدي به إلى الدخول في اكتئاب حاد الذي قد يوصله إلى حد الانتحار. وقد يكون التنمر مقرونا بابتزاز إلكتروني عن طريق تهديد الضحية بنشر معلومات خاصة بها في حال عدم استجابتها لطلبات المجرم، والتي يمكن أن تتلخص في دفع مبلغ مالي، أو القيام بأعمال غير مشروعة أو منافية للأخلاق. وحيث يكون المبتز، في أغلب الأحيان ومعظمها، من محيط الضحية الواقعي أو الإلكتروني، يكون لهذه الأخيرة دور كبير في تعرضها لفعل الابتزاز والتنمر، اللذين يكون مسرح ارتكابهما الفضاء الإلكتروني والعالم الافتراضي عن طريق إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الجريمتين تبداَن في معظم الأحيان بعلاقة عادية بين الضحية والمجرم لكسب ثقتها والتعرف عليها، وبالتالي، سهولة تعريضها للتنمر أو الابتزاز. ومن أبشع صور التنمر والابتزاز الإلكتروني هو الذي يكون ضحيته الأطفال والمراهقون الذين يمكن أن يتعرضوا لاستغلال جنسي، ما يستوجب دق ناقوس الخطر، وتوعية الآباء والأمهات وأولياء الأمور بضرورة تأطير استغلال الأطفال والمراهقين لوسائل الاتصال الحديثة، التي يمكن أن تكون سببا في تدمير حياتهم. هل يكمن المشكل في إساءة استعمال المواطن العالمَ الرقمي، أم إن رقمنة الحياة الواقعية جعلته يستبيح التشهير والاعتداء على حقوق قرينه المواطن؟ يكمن المشكل في إساءة استعمال المواطن للعالم الرقمي، فالبيئة الإلكترونية بجميع مكوناتها التقنية الحديثة غير قابلة لمواجهة الأخطاء البشرية، فالعديد من الجرائم الإلكترونية يكون سببها عدم وجود وعي وإدراك لجانب من الجوانب الخفية لهذا العالم الافتراضي أو كلها، فيكون فعله أو رد فعله سببا في تعرضه للجريمة الإلكترونية، ما يسبب له ضررا كبيرا. فعدد كبير من الجرائم الإلكترونية يتطلب القيام بها تفاعل الضحية، وقيامها ببعض الخطوات لتتحقق غاية المجرم. لذا، فأنسب حل لمواجهة هذا المشكل هو تطوير الوعي والإدراك، والتحكم في بعض الرغبات، والتفكير المسبق قبل القيام ببعض الأفعال التي قد تعرض حياتنا الخاصة أو حياة غيرنا للخطر. بالإضافة إلى الأمية الرقمية التي تسيطر على عدد كبير من المواطنين الذين يسيئون التعامل مع الوسائل الإلكترونية، ويجهلون الآثار السلبية لهذه الوسائل على حياتهم وحياة أطفالهم، في ظل ضعف المناهج التعليمية التي لا تواكب تطورات المجتمع، والتي، على العكس، تماما تسجل تراجعا كبيرا يؤثر سلبا في الناشئة، ويكرس ضعف تحسيسها بمخاطر وسائل العالم الإلكتروني وسبل الوقاية من سلبياتها. كما يكمن المشكل في طبيعة مرتكبي الجرائم الإلكترونية الذين يكونون، في أغلب الأحيان، أشخاصا ذوي مهارة تقنية وعلى مستوى كبير من العلم الإلكتروني، فيستغلونه ويستعملونه في ما يضرهم ويضر غيرهم ولا ينفعهم، فضلا عن عدم دراية المواطن بمميزات العالم الرقمي، وأنه، كما يهددهم ويهدد حياتهم الشخصية وخصوصياتهم، فهو يتوفر كذلك على مميزات وأدوات تمكنهم من حماية أنفسهم من الجرائم الإلكترونية خاصة ومخاطر الأنترنت عامة. يتجلى المشكل كذلك في استهتار المواطنين بحقوقهم الشخصية، وبالتالي، استباحة حقوق الآخرين. فاقتحام العالم الافتراضي عالم المواطنين الحقيقي، وحياتهم الأسرية والشخصية والداخلية والروحية، جعلهم يستعرضونها أمام الجميع لتحقيق أرباح مادية أو معنوية، في انتهاك كبير لذاتيتهم الشخصية، وفي ضرب صارخ لمفهوم الحرمة والحياة الخاصة، وحقهم في ألا تصل أمورهم وأحوالهم وأحوال أفراد عائلتهم إلى علم الغير وألا تكون عرضة لجميع الأنظار، ما أدى بهم إلى استباحة التشهير وانتهاك حرمة والحياة الخاصة لأشخاص آخرين، فضلا عن عدم إدراكهم عواقب أفعالهم التي قد تصل بهم في أغلب الأحيان إلى الزج بهم في السجن لخطورتها. وبالتالي، نجد أن العديد من الأشخاص، الذين يعمدون إلى ارتكاب مجموعة من الجرائم الإلكترونية، كالتشهير والسب والقذف والتنمر، أو نشر محتويات تتضمن تعبيرات محرضة أو ألفاظا نابية، لا يعون بأن تلك الأفعال تكيف على أنها جرائم يعاقب عليها القانون، ربما لاعتيادهم القيام بذلك في الحياة العادية، وعدم تعرضهم للعقاب لصعوبة الإثبات، لكن العالم الافتراضي يحتفظ بكل ما دون وكتب فيه، ما يسهل معه إثبات ارتكاب الفعل بسهولة كبيرة. مع ارتفاع ظاهرة القرصنة واختراق المعطيات الشخصية بهدف الابتزاز والتشهير، إلى أي حد تؤطر القوانين الزجرية هذا الفعل الذي يجرمه المشرع؟ الاعتداء على الحياة الخاصة هو فعل مخالف أولا وقبل كل شيء لقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ». من أهم مميزات القانون، «العصرية»، أي مواكبته تطور المجتمع ومراجعته أولا بأول. وتطور التكنولوجيا والمعلوميات أدى إلى تفشي ظاهرة الاعتداء على الحياة الخاصة، بالنظر إلى سهولة وسرعة انتقال المعلومات الشخصية المتداولة في البيئة الإلكترونية، وإلى ظهور أشكال جديدة للاعتداء على الحياة الخاصة، وبالتالي، ارتفاع ظاهرة القرصنة واختراق المعطيات الشخصية والحياة الخاصة، ونشر الأخبار الزائفة والمحادثات الخاصة بهدف الابتزاز والتشهير، ما يلزم التشريعات ببسط حماية أكبر للحياة الخاصة وللحق في الخصوصية وسرية المعطيات الشخصية. ويعد الحق في الحياة الخاصة حقا دستوريا وجبت حمايته من أي اعتداء، فقد نص الفصل 24 من الدستور المغربي على أن: «لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. لا تنتهك حرمة المنزل. ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون. لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها. ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلا أو بعضا، أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي، ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون. حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون». وعلى غرار الدستور المغربي، فقد جرم المشرع الجنائي كذلك الاعتداء على الحياة الخاصة، من خلال مقتضيات قانونية عديدة نقحت في القوانين الموجودة المنظمة للجريمة التقليدية، فعمد إلى إدخال بعض التعديلات على القانون الجنائي متمثلة في ظهير شريف رقم 1.18.19 صادر في 5 جمادى الآخرة 1439 (22 فبراير 2018) بتنفيذ القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، منشور الجريدة الرسمية عدد 6655 بتاريخ 23 جمادى الآخرة 1439 (12 مارس 2018)، ص 1449، خاصة منها الفصول 447-1 و447-2 و447-3 التي تنص على عقوبات قاسية تصل إلى ثلاث سنوات حبسا بالإضافة إلى الغرامة: – لكل من قام بالتقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص أو سري، دون موافقة أصحابها. – من قام عمدا وبأي وسيلة، بتثبيت أو تسجيل أو بث أو توزيع صورة شخص أثناء وجوده في مكان خاص، دون موافقته. – كل من قام بأي وسيلة، بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبة مكونة من أقوال شخص أو صورته، دون موافقته، أو قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة، بقصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم. وتصل العقوبة إلى خمس سنوات بالإضافة إلى الغرامة، إذا ارتكبت الأفعال المنصوص عليها في الفصلين 1-447 و2-447 في حالة العود وفي حال ارتكاب الجريمة من لدن الزوج أو الطليق أو الخاطب أو أحد الأصول أو الكافل أو شخص له ولاية أو سلطة على الضحية أو مكلف برعايتها أو ضد امرأة بسبب جنسها أو ضد قاصر. وإذا كانت هذه المقتضيات الجنائية توفر حماية لحق الأفراد في الحياة الشخصية أكثر من مقتضيات القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر (ظهير شريف رقم 1.16.122 صادر في 6 ذي القعدة 1437 الموافق ل10 غشت 2016 بتنفيذ القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر)، التي كانت خاصة فقط بفئة الصحافيين والمؤسسات الصحافية ويصعب تطبيقها على الأشخاص العاديين المرتكبين للأفعال المنصوص عليها في هذا القانون، فإنها تبقى كذلك غير كافية للتعامل مع الصور العديدة لانتهاك والاعتداء على الحياة الخاصة التي تتكاثر بشكل مخيف وتتطور صورها مع تطور التكنولوجيا. هل القوانين الزجرية كافية لردع الجريمة الإلكترونية؟ للقوانين الزجرية دور كبير في ردع الجريمة الإلكترونية، أولا الردع العام عن طريق إنذار باقي المواطنين بالعقوبة المطبقة على المجرم الذي يهدد كيان المجتمع، ويؤمل أن تشكل الجرائم الإلكترونية التي تشغل الرأي العام المغربي حاليا ردعا حقيقيا لعدم تكرار هذه الجرائم، مع أنه تجدر الإشارة إلى أن هذه الجرائم ومعالجتها والحديث عنها يمكن أن ينتج جرائم إلكترونية أخرى من المحتمل أن تكون موضوع متابعات ودعاوى قضائية. ثانيا، الردع الخاص، الذي يعد وسيلة لمنع الرجوع لارتكاب الجريمة عن طريق إخضاع المجرم للعقوبة. لكن يتبين أن هذه القوانين غير كافية نظرا إلى الطبيعة الخاصة للجرائم الإلكترونية التي يصعب على المشرع التقليدي ملاحقة تطورها بالنظر إلى السرعة الفائقة التي تتنامى وتتوسع بها، لذلك، يجب إلى جانب القوانين إقرار آليات أخرى محكمة وفعالة تلائم طبيعة هذه الجرائم، وكذا اللجوء إلى السياسة الوقائية والتحسيسية لتقليصها، مادام القضاء عليها كليا مستحيل عمليا وعلميا. كما يجب اعتماد النظم المعلوماتية والوسائل الإلكترونية آلية أساسية لردع الجريمة الإلكترونية، ودعم تطبيق المقتضيات القانونية، خاصة منها الإجرائية، فضلا عن تبني دينامية ثقافية واجتماعية وسياسية للتصدي لهذه الظاهرة. وفي جميع الأحوال، فردع الجريمة الإلكترونية أمر مطلوب وواجب، لكن يجب ألا يكون على حساب الحق في المعلومة وحرية التعبير والرأي، كما أنه يتوجب إعادة النظر في العقوبات التي سنها المشرع في هذا الباب، بالنظر إلى أنه في بعض الأحيان تكتسي الجرائم الإلكترونية طابعا بسيطا، ويكون في هذه الحالة التطبيق الحرفي للنص، دون مراعاة خصوصية كل جريمة إلكترونية على حدة، غير مجدٍ، لأنه سيفقد المتعامل مع العالم الافتراضي الثقة، ويحرمه من إيجابياته الكثيرة، إضافة إلى أننا لن نساهم في تقويم سلوك الجاني بشكل إيجابي ومنتج. وتنتشر الجرائم الإلكترونية بشكل كبير بالنظر إلى تطور المعلوميات على المستوى العالمي، ويمكننا في هذا الصدد التمييز بين الجريمة العادية المرتكبة في بيئة أو فضاء إلكتروني، والجريمة العادية المرتكبة بواسطة الوسائل الإلكترونية، وهي الجرائم التي يكون فيها الحاسوب أو أية وسيلة إلكترونية أخرى أداة لارتكاب جريمة معينة أو التخطيط لها، وبين الجريمة الإلكترونية المحضة، كالجرائم التي تختص في استغلال البيانات المخزنة في الكمبيوتر بشكل غير قانوني، وجرائم اختراق الكمبيوتر بهدف تخريب البرامج والبيانات الموجودة في الملفات، وتدخل ضمنها الفيروسات. وتقتضي خصوصية الجرائم الإلكترونية، باعتبارها جرائم عابرة للحدود، التعامل معها بشكل خاص، فهناك من التشريعات التي اعتمدت مقاربة أفقية بوضع وتطبيق مبادئ عامة دون تخصيص المجالات، كالقانون الفرنسي المتعلق بالثقة في الاقتصاد الرقمي الصادر سنة 2000. وهناك من الدول التي اعتمدت مقاربة عمودية بتخصيص مجالات محددة من النشاط الإلكتروني، كحماية المعطيات الشخصية بنظم قانونية خاصة، كقانون الألفية لحق المؤلف الإلكتروني الرقمي الأمريكي. وقد يتميز التشريع المغربي الموضوعي والإجرائي بقصور كبير وعدم كفايته للتعاطي مع هذه الظاهرة، على الرغم من إصدار مجموعة من القوانين الترقيعية، المندثرة، والمشوبة بالنواقص والعيوب دون اعتماد مقاربة منهجية. وهو الشيء الذي تنتج عنه استحالة تطبيق القوانين على جرائم إلكترونية عابرة للحدود، والتي تتميز بالسرعة في ارتكابها واندثار آثارها، فضلا عن ارتكابها بشكل متخف، والتي تستدعي وقتا طويلا لاكتشافها. وفضلا عن ضعف المقتضيات القانونية الموضوعية، فالصعوبة تكمن، كذلك، في قصور القواعد الإجرائية التقليدية في التعامل مع الجريمة الإلكترونية، نذكر منها على سبيل المثال: * الصعوبة في الضبط لارتكاب الجريمة عن بعد * الصعوبة لسرعة تنفيذ الجريمة عن بعد * الصعوبة أمام السرعة في إتلاف الأدلة ومحو الآثار * الصعوبة في جمع الأدلة * الصعوبة أمام تخزين المعلومات بأنظمة وشبكات إلكترونية موجودة خارج المغرب * الصعوبة أمام مساس القواعد التقليدية بحقوق وخصوصيات الأشخاص * الصعوبة في تحديد المسؤولية على شبكة الأنترنت * إشكالية في قصور القواعد الإجرائية التقليدية في التعامل مع الجريمة الإلكترونية ألا ترين معي أن القوانين، بما فيها الفصل 447، تطبَّق؟ سن مقتضيات قانونية متعلقة بحماية الحق في الخصوصية هو مكسب كبير في ظل تفشي ظاهرة الاعتداء على الحياة الخاصة، فقد فطن المشرع إلى هذا الأمر، وأدخل تعديلات على الفصل 447 من قانون العنف ضد النساء. وتطبيق هذه المقتضيات ضروري كلما تعلق الأمر بانتهاكات خصوصية الغير، عبر نشر صورهم ومقاطع الفيديو وأقوالهم دون إذنهم، أو بغرض الإساءة والتشهير، ومعاقبة الفاعل بعقوبة تتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات، بالإضافة إلى الغرامة.