في مقره الكائن وسط العاصمة الرباط، يواصل شكيب بنموسى لقاءاته مع ممثلي الأحزاب والنقابات وممثلي الجماعات الترابية، وتتواصل معها حالة الترقب والانتظار. فاستقبال مكونات الطيف السياسي والنقابي، وإن كان خطوة ضرورية ومبررة في منهجية عمل اللجنة، إلا أنه بالنسبة إلى المراقب عن بعد هو بمثابة مرحلة ما قبل البداية. وإذا كان الملك قد قرر، بعد عامين من دعوته إلى تجديد النموذج التنموي، تشكيل هذه اللجنة، فلأنه قدّر أن ما تقدّمه الهيئات المنظمة القائمة لا يفي بالحاجة، وبالتالي، فإن اللقاءات، التي انطلقت منذ يوم الخميس 2 يناير الجاري، لا يمكنها أن تكون أكثر من «رفع العتب» بين وزير الداخلية السابق و«أدمغته» ال35، لا أكثر. هذا التسامح الأولي، وترك مساحة زمنية كافية قبل البدء في الحكم والتقييم، لا يعفي من التقاط بعض الهمسات التي تتردد هنا وهناك. فهذا الخبير الاقتصادي يعلّق منبّها إلى «حجم الهوة بين مضمون هذا المصطلح (النموذج التنموي) ومقترحات الأحزاب التي لا تميز بين برنامج حزبي انتخابي وبرنامج حكومي ومضمون النموذج التنموي الذي يعني أشياء أخرى»، وهذه قفشات ساخرة تعلّق على حضور زعيم حزبي أمام اللجنة مرتين بصفتين مختلفتين، وتعليق آخر يتخيّل حوارا مضحكا بين زعيمة الحزب الاشتراكي الموحّد وهي تطالب بنموسى، وزير الداخلية السابق، بملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، وقفشة ثالثة تصوّر رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، وهو يفاوض بنموسى على «بيع» نموذجه التنموي في نهاية اشتغاله عليه كي يخوض به الانتخابات… صحيح أن أخطر ما يمكن أن يواجه مبادرة من حجم لجنة استشارية صادرة عن مبادرة ملكية هو التجاهل وعدم الاكتراث، فحتى الانتقادات، مهما كانت شديدة أو ساخرة، فإنها تدلّ على وجود اهتمام على الأقل. لكن علينا ألا ننسى أن عمر هذه اللجنة لا يتعدى 6 أشهر، وها قد استهلكنا نصف الشهر الأول دون أن نمسك بالخيط الذي يدلّنا على ملامح النهايات. وقد استرعت الاهتمام مواقف حزبين، صحيح أنهما «صغيران» وغير ممثلين في البرلمان، لكنهما اتفقا، وهما المختلفان حد التناقض في مرجعيتيهما، على مقاطعة أشغال اللجنة، أي الحزب الليبرالي المغربي وحزب النهج الديمقراطي، فيما لم يجد أستاذ الاقتصاد، إدريس الفينة، ما يعلّق به على جلسات الأحزاب التي اختارت الحضور، سوى وصف المشهد بالسريالية، «وكأن الأحزاب فُتح لها باب السماء لتعبر عن رغباتها المتعددة. لا أحد تساءل، أولًا، لماذا لم نصل إلى تحقيق كل ما نطلبه اليوم؟». شخصيا، أعتقد، حدّ اليقين، أن المقياس الوحيد للحكم على لجنة بنموسى هو قدرتها، أو عجزها، عن إحياء الأمل. ولا أتوهم أن لجنة من بضعة وثلاثين إنسانا ستخترع لنا الوصفة السحرية التي عجزنا عن إيجادها منذ نصف قرن على الأقل. لا أعبأ كثيرا بمضمون الوثائق التي تقدمها الأحزاب السياسية، ولا المؤسسات الرسمية للحكامة والتقنين، ولا المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، ليس لأنها لا تستحق الاهتمام، بل لأن العطب معروف، والداء مشخّص، والسؤال الوحيد المطروح اليوم على الدولة هو: هل قرّرت وقف النزيف، أم تراها اختارت سبيلا آخر؟ ألتفت إلى جدار الخبير السوسيولوجي واليساري محمد الناجي، فأجده يقطر تشاؤما. لا نخب حقيقية قادرة على التجديد والتغيير، بل إن هذا البلد حُكم عليه بعدم التوفّر على مثل هذه النخبة -يقول الناجي- محيلا على هذه الطوابير الطويلة من الأطر والباحثين والأطباء والمهندسين الذين ينتظرون في بوابة المغادرة نحو آفاق أرحب. يذهب الناجي إلى أبعد من ذلك ويوضّح: «هذا البلد ليس عاجزا عن خلق نخب حقيقية، بل كانت لدينا بعض البذور، لكنها اقتُلعت بالكامل، ثم جرى سجنها والتنكيل بها عند الحاجة». وأنا أحاول قراءة المشهد من زواياه المختلفة، أتصل بأستاذ علم السياسة والقانون الدستوري المحتفظ بحيوية صحافي الستينيات، مصطفى السحيمي. نبرة التوجّس نفسها: «نحن مقبلون على لحظة انتخابية بامتياز، والمؤشرات الأولى تدلّ على أن حزب العدالة والتنمية قد نجح في توجيه النقاش منذ البداية نحو التقاطبات القيمية. قالها بنكيران في البداية، ثم خرج نائب العثماني بعد لقائه بلجنة بنموسى ليذكّر بها. الحزب الذي يقود الحكومة الحالية يعلم ألا مصلحة له في فتح النقاش حول الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية، ويعمل من الآن على إحياء النقاشات الهوياتية، وهذا هو ملعبه المفضل الذي يحسن اللعب فيه». لا أختلف كثيرا مع السحيمي بهذا الشأن، لكنني لا أعتبر هذا المعطى شديد الأهمية. من حق كل طرف سياسي الدفاع عن موقعه بأدوات السياسة. لكن أستاذ القانون الدستوري ينفذ إلى ما هو أخطر: “أسوأ ما يمكن أن يحدث مع لجنة النموذج التنموي هو أن تخلق أملا كبيرا، ثم يتبيّن في الأخير أن النتيجة هزيلة”. هذا التحذير الأخير لا يبتعد كثيرا عما خلصت إليه بعض الدراسات في علم الاجتماع السياسي. فعلى العكس مما يمكن أن نتصوره للوهلة الأولى، ليس اليأس ما يؤدي دائما إلى الأسوأ، بل في أغلب الأحيان يكون الأمل هو الشرارة الحقيقية لإشعال الغضب. يمكن الناس أن يتحملوا ويصبروا ويؤجلوا الاحتجاج إلى حين، لكن الأمل الخادع يؤدي إلى ما يشبه الحمل الكاذب. وتهاوي الأحلام التي يشيّدها الناس بفعل استهلاكهم الأمل المفرط، غالبا ما يكون أشدّ وقعا من اليأس المتراكم. وما يحتاج إليه المغاربة اليوم، ليس اختراعا لوصفة لم تعرفها البشرية من قبل، بل مجرّد استعادة الثقة في مؤسساتهم، والاطمئنان على حرياتهم ومستقبل أبنائهم الذين باتوا اليوم مخيّرين بين الفقر والبحر والسجن. المشكلة مع لجنة بنموسى اليوم، هي أن الأمل بات بالفعل كبيرا، وبالتالي، لا خيار لها سوى أن تنجح، أو تنجح.