في الوقت الذي تدشّن فيه لجنة النموذج التنموي الجديد أشغالها بلقاءات مع النخب التي تقود الأحزاب والنقابات، اختارت واحدة من الفئات الأكثر تضررا من النموذج التنموي القائم، منصة لقاء مفتوح لرئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، مساء يوم الجمعة الماضي، لتوجيه رسائلها وأسئلتها الحارقة إلى المعنيين بهندسة النموذج الجديد. لم يكن مضمون الخطاب، الذي ألقي في هذا اللقاء، مختلفا كثيرا عن المعتاد، حيث تحدّث رئيس الحكومة باقتضاب عن نظريته الفريدة في التفاؤل وطرد اليأس، وأفسح المجال بسرعة للحاضرين، وهم حرفيون وصناع تقليديون وتجار صغار ومقاولون ذاتيون، أي أولئك الذين تركهم النموذج الحالي على الهامش، لكي يطرحوا ما كان يفترض أنه أسئلة، لكنه كان في حقيقة الأمر صرخات وتظلمات وشكاوى، المثير فيها أن قاسمها المشترك كان هو التساؤل حول ما سيحمله لهم النموذج التنموي الجديد الذي بشّر به الملك، وشكّل له لجنة برئاسة شكيب بنموسى. وفي انتظار أن يفسح بنموسى المجال للمعنيين بالنموذج التنموي المنتظر، أي عموم المغاربة، هذه حزمة أولية ببعض الرسائل الموجهة إليه وإلى لجنته، ارتأيت نقلها بشكل مباشر وعلى لسان أصحابها: شابة تقدّم نفسها مربية في روض للأطفال، تستلم الميكروفون وتقول: «شكون حنا فالقانون والسياسة؟ لا وجود لقانون خاص بنا، وبالتالي، لا حماية ولا حد أدنى للأجور. نتقاضى 1600 درهم شهريا دون ضمان اجتماعي ولا صحي ولا إطار قانوني»… «نحن الذين علّمنا الوزير والعمدة والنجار…»، يقول زميلها المربي في روض للأطفال، «فما هو موقعنا من الإعراب بعد الشروط التعجيزية التي وضعت أمامنا؟ نحن فئة مظلومة لأنه جرى التخلي عنا ودعم رياض الأطفال داخل المدارس العمومية بدل رياضنا التي تضم أكبر عدد من الأطفال…». رجل متوسّط العمر أتى من قلب منطقة الغرب حاملا شحنة كبيرة من الغضب، تناول الكلمة بعدما حان دوره ليقول: «نحن من ضحايا تخلي شركة «سنطرال» عن كثير من التعاونيات المنتجة للحليب، يا عباد الله إن الفلاح البسيط مقهور، الحليب غير قابل لتخزين، وقمحنا أغرقوه في الزرع المستورد، وأبقارنا التي اشتريناها للحليب والتسمين لم تعد تصلح لشيء بعدما شرعوا في استيراد اللحوم الحمراء… والله ثم والله إننا لا نجد ما ندفع به فاتورة الكهرباء في نهاية الشهر». ممثل لتجار أسواق الجملة يتساءل بشكل مباشر: «ما موقعنا في النموذج التنموي الجديد؟ الحكومة أعدت مخططا توجيهيا للإصلاح، لكن تجلياته لم تظهر حتى الآن، نحن نضخ 320 مليون درهم في ميزانية الجماعات، لكن لا وجود لنا بصفتنا مواطنين، نحن مجرّد أرقام، لا نحن حصلنا على صفة التجار، ولا نحن مخولون للحصول على التغطية الصحية، فهل سنستمر في اقتصاد الريع أم سنعرف إصلاحا حقيقيا؟». سائق سيارة أجرة لا يقل حنقا حاول ارتجال مرافعة للدفاع عن قيمة المهن وعدم وتفضيل بعضها على البعض الآخر، ثم خاطب العثماني قائلا: «هل تعرف سائق سيارة الأجرة أم لا؟ نحن أكثر من 300 ألف سائق مهني كلهم حقوق أسرهم مهضومة، واش بغيتونا ندخلو للحبس بإجبارية الضمان الاجتماعي؟». ممثل إحدى التعاونيات قال إنه رغم صدور مرسوم يخوّل التعاونيات والمقاولين الذاتيين المشاركة في بعض الصفقات العمومية، فإن الإدارة تواجههم بالقول إن رئيس الحكومة لم يضع توقيعه بعد على هذا المرسوم؛ وهو ما اضطر العثماني إلى الاستعانة بجامع المعتصم للبحث عن تاريخ نشر المرسوم في الجريدة الرسمية، ويحذّر من لجوء بعض الموظفين إلى مثل هذه المبررات الكاذبة ل«تصدير» المواطنين. متحدث باسم أرباب المخابز يصرخ بأعلى صوته: «إن قطاعنا يحتضر والمستثمرون فيه ينقرضون، إن هناك قطاعا عشوائيا يحاصرنا وينافسنا دون أن يدفع أي ضرائب، وحتى الكهرباء ندفعه بالتعريفة التجارية وليس الصناعية، إنه قطاع «معّيين عليه» فاعتنوا به». وعلى الإيقاع ذاته عزف متحدث باسم «السلاخين» الخائفين من فتح مجزرة عصرية بآلات متطورة لتزويد جهة الرباط كلها باللحوم على حساب مناصب شغلهم، وتاجر مجوهرات يتساءل مستنكرا: «لماذا تطالبنا الجمارك بالفواتير المفصلة قبل أن تفتحص تجار الذهب بالجملة؟»، ومقاول ذاتي يتساءل: «ماذا بعد حصولي على البطاقة، هل سأتمكن من الحصول على القروض؟»، ومعاقة تتساءل بدورها: «ما موقع المعاق في النموذج التنموي الجديد؟». أما محترفة «الخياطة»، التي تحدثت باسم زميلاتها، فتوجّهت مباشرة إلى لجنة شكيب بنموسى للنموذج التنموي، قائلة إن الحدود البرية المغلقة مع الجزائر تكلّف بلدنا نقطتين من معدل النمو، وإنها وزميلاتها سيحصلن على فرصة جديدة للتصدير وتوسيع النشاط الحرفي لو كانت هذه الحدود مفتوحة. هل من قراءة ممكنة لهذه الصرخات، أم نكتفي ببلاغة تلقائيتها؟ سوف لن نمارس أية وصاية على هؤلاء المواطنين الذين عبّروا عن أنفسهم، إذا تدخّلنا لنقول: إن مشكلة المغاربة ليست في قلة الأفكار والمخططات، بل في سرطان الريع والفساد والارتباك المؤسساتي في رسم دوائر الاختصاصات والسلطات، والذي يحول دون وصول الإصلاحات إلى مداها والبرامج إلى مستحقيها، ويمنع توزيع ثمار النمو بين المشاركين في زرعها. وأقتبس مما خطّه السوسيولوجي والاقتصادي، محمد الناجي، أخيرا، حين قال إن المغاربة غاضبون، لكن ليس لأنهم فقراء، بل لأنهم أصبحوا يعرفون سبب فقرهم.