يتطلب تسارع الأحداث وكثافتها داخل المشهد السياسي الوطني، درجة عالية من التركيز لربط بعضها ببعض،وإيجاد ناظم يساعد على فهم أبعادها، وكشف من يمكن أن يكون وراءها، ومن يمكن أن تكون في مصلحته، ومنيمكن أن تؤثر عليه، ومن يمكن أن يكون مجرد حطب لها. وينبغي الانتباه إلى أن المغرب ليس في منأى عما تعيشه دول قريبة جغرافيا وقريبة في الوضعية الاقتصاديةوالسياسية، ويبقى واردا في كل حين أن تظهر فيه مشاهد مشابهة لما تعرفه تلك الدول، وإن بخصوصية مغربية، كماهي عادة المغاربة. بمعنى آخر، فإن توسع دائرة الاحتجاجات الشعبية وتحولها من المطالب الاجتماعية إلى مطالب سياسية ليسمستحيلا، بالنظر إلى احتمال الإصابة بعدوى شعوب المنطقة، أو بالنظر إلى عدم قدرة السلطة إلى اليوم، على إقناععموم المواطنين، بحلولها لمشاكلهم، أو بالمبررات الذاتية والموضوعية التي لا تسمح بتلبية أغلب حاجاتهم التنمويةوغيرها. صحيح أنه كانت هناك إشارات اعتقد الجميع أنها بداية لمسلسل انفراج، لكنها باتت أقرب إلى مجرد مسكنات، لايبدو أمد مفعولها طويلا، وهذا ليس تشكيكا في صدقها وجديتها، ولكن قد تكون الأطراف المتضررة منها أخذت زمامالمبادرة لتشوش عليها، وتُفقدها المضمون، من خلال تسريع تفاعلات وديناميات مضادة. لنحاول استرجاع بعض الأحداث والإشارات الأخيرة التي طغت على النقاش العمومي، واستنتاج العلاقة الممكنةبينها، فبعد التعديل الحكومي الذي أعطى إشارة في اتجاه محاولة إعادة ترتيب المشهد الحزبي، وبعد توجيه الملكخلال افتتاحه للسنة التشريعية الجديدة، الفاعلين السياسيين إلى العمل المنتج، وعدم الدخول في السياق الانتخابي،المطبوع بالتقاطب والتنافسية الحادة، من المؤكد أن الأطراف التي تعتقد بأن المغرب من خلال هذه الإشارات، يمكن أنيأخذ مسارا آخر، قد لا يخدم مصالحها، اتخذت قرارها في اتجاه “وضع العصا في العجلة“، وليس هناك من وسيلةأنجع لتحقيق هذا الهدف، من تأليب الرأي العام وإظهار الصورة أمامه مضببة ومشوهة وتبخيس كل ما جرىوالتشكيك في النوايا الحسنة التي ظهرت، وتحفيز استعداد المواطنين وخاصة الشباب للاحتجاج، وليس هناك منصةقادرة على تحقيق هذه الرغبة، أكبر وأقوى من مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيسبوك ويوتوب. وفي هذا الاتجاه، يمكن أن نفهم احتجاج اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، على شركةفيسبوك بسبب التخوف من أن تكون مراكز تجميع البيانات الشخصية للمواطنين المغاربة والمقيمين في المغرب، فيبلدان لا تكن الود للمغرب، وبسبب عدم التجاوب مع شكايات لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، المتعلقةبخرق الحياة الخاصة واستعمال الصورة أو المعطيات المنافية للأخلاقيات، وانتحال الهوية. وبالفعل، فرصد عملية النشر على الفيسبوك في الفترة الأخيرة، يكشف تغيرا في السرعة والوتيرة، وعودة صفحاتكانت نشيطة خلال حملة المقاطعة، إلى ما يشبه التعبئة والتحريض على رفض الواقع المعاش. جرى ذلك بالموازاة مع تحذير المجلس الاقتصادي والاجتماعي من تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على ديناميةالاحتجاجات في المغرب، ودعوته إلى الإبداع في وسائل التواصل مع الرأي العام، وبالموازاة مع أحداث أخرى تصبفي الاتجاه نفسه، منها إحراق العلم الوطني في تظاهرة بالخارج، ومنها تسريب تسجيل صوتي لناصر الزفزافي منداخل السجن، ومنها، كذلك، اجتياح الدعوة إلى التظاهر يوم 26 أكتوبر، ثم إطلاق أغنية “راب” تحت عنوان: “عاشالشعب” على ما ينطوي عليه هذا العنوان من حمولة سياسية، وانتشارها المثير على اليوتوب وعلى الفيسيوك. لاشك أن كل هذه الأحداث، ليست بريئة، وأنها تسير نحو المصب نفسه، وفي التقدير، أنها يمكن أن تكون شرارةلشيء ما يُطبخ على نار هادئة، على أن احتمال كونها استباقا لموجة احتجاجات مقبلة، وارد أيضا، لمحاولة التخفيفمن قوتها أو توجيه مسارها بما لا يفسد الوصفة المعتمدة. هناك حاجة إذًا إلى التركيز لفهم ما يحدث، وما يتم التخطيط له، والحاجة أكبر إلى عملية تلقيح الرأي العام، قبل فواتالأوان، بمزيد من الإشارات الإيجابية القادرة على إبطال مفعول الموجة في حال وصولها شواطئ المغرب، فتمويهالشعوب أصبح صعبا ومكلفا وبلا نتيجة.