إن الصراع الدائر اليوم بين رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، ومديرة الأخبار في القناة الثانية، سميرة سيطايل، يعطي فكرة واضحة وجلية عن الصعوبات الكبيرة التي تعترض مسار التحول الديمقراطي في المغرب وعن الحواجز التي تقف أمام تطبيق الدستور، وعن وجود معارضة أخرى للحكومة غير معارضة لشكر وشباط والباكوري والراضي «مول الغابة».. معارضة لا تشارك في الانتخابات، ولا تؤسس أحزابا، ولا تتعرض للمحاسبة ولا للمساءلة ومع ذلك تتمتع بفعالية وقوة تمكنها، مثلا، من شن حملة على عقد البرنامج الذي وقعته الحكومة مع المكتب الوطني للماء والكهرباء، وأن توهم المواطنين بأن الزيادة في فواتير هاتين المادتين الحساستين ستشمل الأغنياء والفقراء على السواء، وهذا خطأ، من جهة، وتضليل للرأي العام ولعب بالنار، من جهة أخرى. العرايشي وسيطايل وبن الشيخ موظفون لدى الإدارة الموضوعة، دستوريا، تحت سلطة رئيس الحكومة، ومع ذلك يخرج الثلاثة وينتقدون الحكومة والوزارة الوصية، ويعبرون عن مواقف سياسية، بل أكثر من هذا تقول سيطايل إن رئيس الحكومة عندما ينتقدها علانية، ويشكو حربها له على القناة الثانية، يتحرش بها نفسيا... التلفزات الرسمية تابعة كلها لشركة مملوكة للدولة، ورئيس هذه الشركة يعين بظهير شريف بناء على اقتراح رئيس الحكومة. معنى ذلك أن هذا المنصب، الذي اعتبره القانون التنظيمي، الذي أعدته الحكومة وصادق عليه البرلمان، منصبا استراتيجيا، يفترض أن يقع حوله توافق بين سلطة الاقتراح وسلطة التعيين... هذا ما يقوله القانون.. ما يقوله الواقع شيء آخر تماماً. هؤلاء الجنرالات الثلاثة الذين يديرون القطب العمومي يعتبرون أنفسهم شخصيات سامية مسؤولة أمام القصر وليس أمام الحكومة، وأنهم يخدمون أجندة أخرى لا علاقة لها بالسياسات العمومية التي تضعها الحكومة في دفاتر تحملات تصادق عليها الهاكا، وفق ما ينص عليه القانون. قدم، أول أمس، محمد الأشعري، وزير الثقافة والإعلام السابق، شهادة معبرة في ندوة علمية حول التلفزيون والجهات التي تتحكم فيه، وهنا حكى واقعة معبرة جداً، حيث قال: «لم يكن في أجندة الوزير الأول الأسبق، عبد الرحمن اليوسفي، السيطرة على الإعلام، لكن مع ذلك وقعت له حادثة سير مع القناة الثانية. لقد تم قص صوره واستثناؤه من تغطية للقناة الثانية خلال مشاركته في مسيرة شعبية». وكشف الأشعري أنه «اتصل بمدير القطب العمومي، فيصل العرايشي، الذي تحجج بخطأ مهني ارتكبه الصحفي خلال تغطيته للمسيرة، بيد أن اليوسفي طلب من العرايشي عدم معاقبة الصحفي أو تقديمه ككبش فداء». لماذا؟ لأنه -يضيف الأشعري- «كان يدرك أن الأمر لا يتعلق بخطأ مهني. كان يعرف أن التلفزيون كان مجالا للتدخل من طرف الكثير من الجهات، باستثناء حكومة اليوسفي». انتهى كلام الأشعري. خلاصة هذه الشهادة تقول إن الجميع يتدخل في عمل التلفزات باستثناء الحكومة. أنا شخصيا ضد تدخل الحكومة، وغير الحكومة، في التلفزات الرسمية، التي يجب أن تتحول إلى عمومية، وأن أفضل طريقة لإدارة هذا المرفق الحيوي والاستراتيجي هي النموذج البريطاني الذي يعطي BBC استقلالية كاملة من خلال آليتين؛ أولا، التمويل المباشر من جيوب دافعي الضرائب، حيث لا تمر هذه الضريبة عن طريق ميزانية الحكومة، بل توضع مباشرة في صندوق الهيئة التي تسير الشبكة الأشهر في العالم. ثانيا، يقترح رئيس الهيئة من قبل الحكومة، ويعين من طرف البرلمان، ويتم اختياره من كبار المهنيين والحكماء المشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية والتجرد... وبعدها لا تتدخل الحكومة في عمل الهيئة.. تستطيع إقالة رئيسها، لكنها لا تستطيع التحكم فيها لأن لها مجالس تحرير ونقابة قوية وتقاليد وأعرافا مهنية يصعب القفز فوقها، وحتى عندما تقع خلافات، وهي تقع وبعضها يكون كبيرا مثل ما وقع من أزمة بين «بي بي سي» وحكومة توني بلير في حرب الخليج الثانية، حيث لم يساير التلفزيون العمومي أكاذيب الحكومة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، فإن الحكومة لا تطوع التلفزيون العمومي لسياستها لأنه مؤسسة في خدمة الجمهور الذي يمولها، وحتى الإعلانات غير موجودة في هذه الشبكة حماية لاستقلالية خط تحريرها. لكن إذا لم نصل إلى صيغة ينال بها الإعلام الرسمي في بلادنا استقلاليته كاملة عن الحكومة وعن مراكز القوى الكثيرة في الدولة، فلا أقل من تطبيق القانون الحالي، وجعل القنوات العمومية تلتزم بدفاتر التحملات التي تضعها حكومة منتخبة، أما التمرد عليها، والخضوع، في المقابل، لسلط أخرى فهو أمر يتناقض مع الديمقراطية ومنهجيتها... إن تصوير الخلاف بين القناة الثانية والحكومة على أنه خلاف بين طرف يريد الحرية والاستقلالية والمهنية لوسائل الإعلام العمومية، وطرف يريد أن يبسط نفوذه وسلطته وجبروته على الإعلام، ويوظفه سلاحا إيديولوجيا في معاركه.. هذه الصورة مضللة وغير حقيقية بالمرة، فلم ينل التلفزيون المغربي حريته بعده لنخشى عليه من عبودية الحكومة...